رأي

الهند ماضية في تغيير مشهدها الاقتصادي

كتب د. عبدالله المدني في صحيفة البيان.

في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الصيني من مآزق جمة (تباطؤ النمو وتراجع الصادرات وتآكل ثقة المستثمرين وأزمات في القطاع العقاري وتراجع الاستهلاك وارتفاع معدلات البطالة)، على نحو ما فصلناه في مقال سابق، نجد أن منافستها الهندية ماضية بثبات في بناء اقتصاد قوي بدليل تحقيقها نمواً قوياً في ناتجها المحلي الإجمالي وصل إلى 7.8 % في الربع الأول من السنة المالية 2023 ــ 2024، وهو ما وضع الهند في قائمة الدول الأسرع نمواً ضمن مجموعة العشرين.

وعلى الرغم من أن الهند تسير على الطريق الصحيح لتحقيق طموحاتها المتمثلة في خلق اقتصاد يساوي 5 تريليونات دولار بحلول العام 2026 ــ 2027، إلا أن هناك ثمة مشاكل تعمل حكومتها حالياً على التعامل معها بشكل ديناميكي جدي ومؤثر للحد منها قدر الإمكان، مستخدمة طاقات الهنود الخلاقة الشابة والموارد الوطنية الكثيرة المتاحة والقطاعات الرئيسية ذات التأثير الحاسم.

يشكل التضخم إحدى هذه المشاكل، باعثاً قلقاً مستمراً لدى مخططي الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسات المالية، وهو ما دفعهم إلى علاجه برفع أسعار الفائدة الرئيسية في عام 2022 مع تنفيذ تدابير مالية أخرى.

من جهة أخرى تركز الحكومة أنظارها وخططها على القطاع الزراعي باعتباره لاعباً محورياً في الناتج المحلي الإجمالي، ومصدراً مهماً للعمالة ومساهماً رئيسياً في الحد من الفقر وضامناً للاستقرار المالي الشامل والأمن الغذائي. ومن هنا أطلقت الحكومة مبادرات وطنية هامة استهدفت الزراعة المستدامة المرتكزة على استغلال التقدم التكنولوجي مع الارتقاء بممارسات النقل والتخزين وفق طرق علمية.

وفي السياق نفسه شجعت الحكومة على الاستثمار في الزراعة، ليترافق ذلك مع مساهمات القطاع الصناعي الذي بات هو الآخر يلعب، منذ سنوات، دوراً مؤثراً لجهة توليد فرص العمل وتحقيق النمو، حيث تشمل سلة الصادرات الهندية الإلكترونيات والسيارات والحافلات والحديد والصلب والبتروكيماويات والأطعمة.

من المشاكل والتحديات الأخرى، عدا التضخم، مشكلة كيفية الموازنة بين توسيع أنشطة القطاع الصناعي وتعزيز مكانته داخل سلاسل القيمة العالمية من جهة وإدارة فائض القوى العاملة من جهة أخرى، حيث إن القطاع الصناعي الهندي شهد ويشهد ميلاً ملحوظاً نحو تكثيف الاعتماد على الآلات والتكنولوجيا الحديثة مقابل تخفيض اعتماده على المهارات البشرية، وهو ما خلق فائضاً من العمالة.

وتحاول الحكومة اليوم معالجة هذا التحدي من خلال توجيه هذا الفائض نحو الأنشطة الصناعية التصديرية ذات العمالة اليدوية الكثيفة مثل تصنيع لعب الأطفال والأحذية والمجوهرات والأثاث من جهة، ومن جهة أخرى توجيهه نحو قطاع الخدمات، ولا سيما خدمات البناء والتشييد، خصوصاً وأن قطاع الخدمات الهندي يوظف نسبة أقل من السكان مقارنة بمثيله في دول شرق آسيا.

وفي الوقت نفسه، تعمل الحكومة الهندية على تدارك المصاعب المستقبلية المحتملة من الانفجار السكاني الهائل التي جعلت البلاد اليوم تتخطى الصين لجهة عدد السكان، وذلك بخلق فرص عمل جديدة من خلال التدريب وتنمية المهارات.

ولعل ما يبشر بصمود الاقتصاد الهندي ومضيه قدماً نحو تحقيق طموحاته دون عثرات، أن الحكومة الاتحادية أطلقت منذ عام 2015 برامج ومبادرات لافتة للنظر لإيجاد بيئة مواتية قادرة على دمج اقتصاد البلاد مع آليات الاقتصاد العالمي، ومنها برنامج الهند الرقمية الهادف إلى تحويل الاقتصاد الهندي إلى اقتصاد معرفي وتوسيع البنية التحتية الرقمية وتعزيز خدمات الحكومة الإلكترونية، وهذا عامل مهم في جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة وخلق نحو 6 ملايين فرصة عمل جديدة خلال السنوات الخمس القادمة.

ونخالة القول إن التآزر بين المبادرات والسياسات الحكومية، وطاقات القوى العاملة الديناميكية الشابة (أكثر من 52 % من الهنود تحت سن الثلاثين)، كفيل بخلق أوضاع تحد من المشاكل الآنية والمستقبلية وترسخ موقع الهند الاقتصادي عالمياً.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى