الهزيمة الإستراتيجية للاحتلال والانعطافة التاريخية في مسار المقاومة الفلسطينية.
كتب أحمد العربي في الجزيرة.
ليس عجيبا أن شكلت العملية التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية حالة صدمة لدى كيان “إسرائيل” والقوى المرتبطة بها إقليميا والراعي الغربي والأميركي خصوصا، والشعور بالفرح العارم لدى أنصار المقاومة من شعوب المنطقة وقواها الحية ومناصري القضية الفلسطينية على مستوى العالم، لأنهم لامسوا شيئا يفوق خيال توقعاتهم.
فالمقاومة التي انطلقت بوسائل بدائية، وتطورت على مدى مراحل في حيز جغرافي معزول عن العالم، أصبحت لها القدرة على إحداث انهيار معنوي شبه كامل لدولة ظلت تقدم نفسها بالقوة التي لا تقهر، وفي مثل هذه الحالة تعد الانهيارات المعنوية محددا أساسيا في أعمار الدول، كما يعتبر الحافز النفسي عاملا من عوامل الانتصار في مواجهة كل أشكال الظلم الطغيان.
هزيمة إسرائيل الإستراتيجية أو الانهيار المعنوي
تتعدد أوجه الهزيمة التي منيت بها “إسرائيل” ابتداء مع طوفان الأقصى الذي أطلقته المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة المقاومة الإسلامية حماس، لكن الهزيمة الراهنة ليست فشلا تكتيكيا وحسب، مما يمكن تلافيه أو التغطية عليه، بل إنه يتعلق بأحد مقومات وجود “إسرائيل” وبالسردية التي ارتبطت بها في الجوانب الأمنية والعسكرية والتقنية والأيديولوجية، وهي مقدمة لفقدان مقومات الوجود في بيئة ونسيج اجتماعي يعتبرها مرفوضة وغريبة عنه.
الاختراق الذي أحدثته المقاومة في غلاف غزة، شكل إهانة لأسطورة الجيش الذي لا يقهر، وهو جيش مدجج بآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية
أولا: الهزيمة الاستخباراتية وفقدان القدرة على التوقع
هذه ليست المرة الأولى التي تفشل فيها دولة الاحتلال في معركة الاستخبارات مع المقاومة، على الرغم من الفارق التقني والسيبراني والتنسيق والدعم الذي تحظى به المخابرات “الإسرائيلية” على مستوى عالمي مع القوى الكبرى، فقد سبق الكشف مرارا على ثغرات في الجدار المعلوماتي الأمني الإسرائيلي، فكانت منفذا للمقاومة في مواجهة ممتدة تشكل المعلومة فيها جانبا مهما من الحرب النفسية.
لكن اللحظة الراهنة تجعل الفشل الاستخباراتي مختلفا في الدرجة والنوع، بالنظر إلى حجم معركة طوفان الأقصى التي أطلقتها المقاومة، وظلت تحضر لها على مدى زمن طويل، دون أن تكتشف إسرائيل معالمها ومؤشراتها، مما يخدش الصورة التي صنعتها إسرائيل لجهازها الاستخباراتي منذ تأسيسها، لا سيما إذا علمنا أن كسب الرهان في الحروب المتعددة التي خاضتها إسرائيل ضد حركات التحرر فيما مضى، كان يتم في ميدان الاستخبارات بادئ الأمر، قبل أن ينتقل إلى ميدان الصراع المسلح أو السياسي، وانقلاب الوضع في السياق الراهن يكشف حجم الخسارة، مما يجعلها هزيمة إستراتيجية تحمل معها نتائج وتبعات متعددة تمتد إلى مستوى إقليمي أكبر.
ثانيا: الهزيمة العسكرية على الأرض
ذلك أن الاختراق الذي أحدثته المقاومة في غلاف غزة، شكل إهانة لأسطورة الجيش الذي لا يقهر، وهو جيش مدجج بآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية، سواء في “إسرائيل” نفسها، أو من الدول الداعمة لها، وقد ظل عتادها العسكري، هو آلة الفتك الرئيسية في الحروب السابقة مع دول الطوق، أو في مواجهة الشعب الفلسطيني، لكن الحروب الأخيرة مع المقاومة أسقطت هذه الأسطورة المصطنعة، بل أوضحت معركة طوفان الأقصى بالملموس منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري أن القوة العسكرية لدولة الاحتلال، على الرغم من التقنية المتطورة التي تمتلكها، تظل قوة متخيلة وغير حقيقية، لأنها تفتقد إلى الروح المعنوية، وقد كان هذا العامل أحد الأعراض التي تحدث عنها الدكتور عبد الوهاب المسيري في آخر كتاباته عن الأعراض الفيتنامية لزوال إسرائيل، وأقرها عدد من الكتاب من داخل الكيان الإسرائيلي نفسه.
لا يبرز مؤشر الهزيمة العسكرية فيما قامت به المقاومة على الأرض فحسب، بل تمتد للفشل السياسي والأمني. الدعم الأميركي المتزايد يُظهر محاولة الإنقاذ لإسرائيل، ويؤكد أن استمرارها كان دائما مرهونا بالقوى الدولية. الفشل العسكري الإسرائيلي يُظهر تدهور قوتهم، ويضع مستقبلهم واستقرارهم تحت التهديد، مما يُعيد تقييم صورتهم كقوة لا تُقهر.
إن الخلل الذي تجلى للعيان، يعبر عن تفكك في العناصر التي شكلت ماهية قيام إسرائيل، وفقدان الروح المعنوية داخل الجيش، بل داخل الكيان الإسرائيلي برمته، مما يعبر عن هزيمة إستراتيجية عميقة يوزايها تطور نوعي إستراتيجي لدى المقاومة؛ وإن لم يكن هناك توازن على مستوى القوة والعتاد والتقانة، ذلك أننا لا نقارن بين جيش نظامي مدعوم من كل القوى الغربية وأميركا أساسا، مقابل مقاومة محاصرة منذ قرابة عقدين، لكننا نقوم باستحضار هذا المنحى، لإبراز التحول النوعي الحاصل في مسارين أو اتجاهين:
المسار الأول: الانحدار داخل كيان دولة إسرائيل وفي مشروعها الذي قامت عليه
إذ قامت على تاريخ من المجازر كانت العصابات الصهيونية أداتها الأولى حين الاحتلال، ثم وجود جيش نظامي يستمد قوته من الحروب مع دول الجوار وضد الفلسطينيين أصحاب الأرض، بنزعة تتحكم فيها سرديات يتداخل فيها القومي بالديني بالسياسي، وهو جيش عملت أميركا على دوام تفوقه على محيطه العربي، بل على الصعيد العالمي لارتباط إسرائيل العضوي بها.
المسار الثاني: وهو يخص المقاومة
سنشير إليه لاحقا، ويكفي القول فيه، إنه شهد تطورا تراكميا، إلى حدود المعركة الحالية، التي عبرت عن تحول إستراتيجي في المواجهة برمتها، ما ستكون له تبعات على المشروع الصهيوني برمته، وحالة القلق الغربي والأميركي الراهنة، إنما هي ناتجة عن الوعي بالمشكلة الكبرى التي تعانيها إسرائيل، ومن ثم يعد إخفاقها، وتحلل منظومتها العسكرية مؤذنا على المدى الإستراتيجي بانهيار تام، إذا توفرت الشروط الدولية والإقليمية، وفي الحد الأدنى وجود البعدين الإقليمي العربي والإسلامي الذي يوفر الغطاء والحماية والدعم، لكن ذلك في واقع الأمر مشروط بحرية هذا المحيط الإقليمي نفسه وانتزاع سيادته، وهو ما يبدو أنه سيظل غائبا إلى مدى متوسط.
ثالثا: لم تعد إسرائيل جنة الشرق الأوسط والدولة الآمنة
لم تعد إسرائيل الدولة الديمقراطية في سياق عربي متخلف يحكمه مستبدون، فسياسيا تعاني دولة الاحتلال حالة اضطراب مستمرة تشمل مختلف المجالات، استشعر فيها -بالضرورة- المستوطنون المبشرون بالفردوس الأرضي، أنها لا تتوفر على درجة عالية من الأمان وتوفير الاستقرار على المدى الطويل، سواء في اضطرابها السياسي، أو في النزعة العبرية والدينية اليهودية التي تتلبسها مع سيطرة اليمين، مما يجعلها في مواجهة مباشرة مع الفلسطينيين على كامل التراب الفلسطيني.
الانتفاضة المستمرة في أراضي فلسطين المحتلة تعزز الوعي الفلسطيني بالقضية، وتجسد الوحدة الوطنية. في المقابل، يعاني الإسرائيليون انعدام الشعور بالأمان والاستقرار بسبب الفجوات الثقافية والاجتماعية بينهم. الهجرة المضادة من “إسرائيل” تزداد، خصوصا بين الأغنياء والأثرياء، بفعل استمرار النزاع وتصاعد وتيرة المقاومة. الوعود الأمنية والاستقرار التي قُدمت للمستوطنين تبدو الآن مشكوكة في صحتها بفعل تصاعد التوترات والأعمال العدائية.
رابعا: تحلل الأيديولوجيا التي تشكل منها المشروع الصهيوني مقابل تجذر الانتماء إلى الأرض الفلسطينية
مقابل تجذر الانتماء إلى الأرض الفلسطينية للفلسطينيين وخسارة رهان التطبيع مجتمعيا وحفاظ القضية الفلسطينية على جذوتها في الشعور العربي الإسلامي، وهذا في الواقع يعكس أزمة عميقة ذات صلة بوجود إسرائيل من الأساس، ومعركة طوفان الأقصى أعادت توحيد الشعور العربي الإسلامي، إضافة إلى أنها غذت لدى الفلسطينيين أهمية المقاومة باعتبارها مقدسا من المقدسات، ومن ثم الفشل العملي لخيار السلام الذي ظل يخدم إسرائيل من خلال التنسيق الأمني أكثر مما يخدم الفلسطينيين.
إن ضمور أيديولوجيا التأسيس لإسرائيل، وفشل رهاني السلام والتطبيع، يعد مقدمة لانهيار إستراتيجي كبير لإسرائيل يهم مقومات وجودها واستمراريتها، سيسهم في تعجيله دون شك المسار التراكمي الذي خطته المقاومة.