اقتصاد ومال

الهدنة الهشة اقتصادياً: قلق خليجي من الصراع الإسرائيلي الإيراني

تلقي حالة الهدنة الهشة بين إيران وإسرائيل بظلالها على اقتصادات الخليج وأسواقه المالية، حيث يعيش المتعاملون والمستثمرون حالة ترقب في ظل عدم وجود أي اتفاق رسمي لوقف إطلاق النار، وهي الحالة التي عززتها مقابلة وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، مع وكالة الطلبة الإيرانية، التي شدد فيها على أن طهران لا تعترف بأي اتفاق رسمي للهدنة، وأن جميع السيناريوهات تبقى واردة بما فيها استئناف الأعمال القتالية.

وخلال التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل، الذي استمر 12 يوماً وانتهى بإعلان وقف إطلاق نار غير رسمي، ساد الاعتقاد في الأسواق الخليجية بأن الأطراف الرئيسية تدرك أهمية تفادي التصعيد الواسع، خاصة إزاء تهديدات إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره نحو ثلث صادرات النفط العالمية.

وأظهرت مؤشرات بورصات الخليج مرونة نسبية، إذ ارتفعت أسهم كبريات الأسواق كالسعودية (مؤشر تاسي ارتفع أكثر من 2% في اليوم التالي للتهدئة)، واستمر النشاط الاستثماري إجمالاً، بحسب تقرير نشرته وكالة رويترز، مشيراً إلى أن المستثمرين ينظرون إلى المخاطر باعتبارها مؤقتة طالما لم تتوسع رقعة الصراع، مع إدراك الأسواق لقدرة القوى الكبرى على ضمان تدفق النفط وحماية الملاحة الحيوية عبر الخليج حتى أثناء الأزمات.

منطقة رمادية

تشير توقعات البنك الدولي وصندوق النقد إلى أن النمو الاقتصادي الخليجي سيظل مرشحاً للارتفاع خلال العام الجاري، مع توسع في قطاعات التصنيع والخدمات، شريطة بقاء سيناريو الحرب الشاملة مستبعداً، وفي المقابل تُبرز بعض التقارير أن مجرد التلويح بإغلاق مضيق هرمز يرفع “العلاوة الجيوسياسية” على أسعار النفط ويثير توتر الأسواق العالمية للطاقة، ما قد يعود بالضرر على الاقتصادات الكبرى المستهلكة للطاقة ويبطئ نمو التجارة الدولية، بحسب تقدير نشره موقع “معهد واشنطن”.

في هذا الإطار، يشير الخبير الاقتصادي، عامر الشوبكي، لـ “العربي الجديد”، إلى أن الوضع الراهن في منطقة الخليج أشبه بـ “الحالة الرمادية” أو “الهدنة الهشة” التي لا تقوم على اتفاق رسمي مكتوب لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، بل تدار عبر تفاهمات غير معلنة، تبقي جميع الاحتمالات مفتوحة، بما في ذلك عودة التصعيد المفاجئ دون سابق إنذار، وهو ما ينعكس بحالة من عدم اليقين الاقتصادي، تُحدث تأثيرات مباشرة وسريعة على أسواق الطاقة العالمية، حيث تُعد أسواق النفط الأكثر تأثرا بالتقلبات الجيوسياسية.

فأسعار النفط الحالية لا تزال متضمنة لعلاوة مخاطر تتراوح بين دولارين و3 دولارات للبرميل، نتيجة المخاوف من عودة الحرب في المنطقة أو من احتمال إغلاق مضيق هرمز، رغم انخفاض تقديرات هذا الاحتمال إلى 4% حسب ما أشارت إليه وكالة موديز للتصنيف الائتماني أخيراً، ويرى الشوبكي أن هذه المخاطر تبقى عنصراً مؤثراً في تسعير النفط، حتى في ظل الإجراءات التصحيحية التي اتخذها الاجتماع الأخير لتكتل “أوبك+”، وعلى رأسها الإفراج عن نحو 548 ألف برميل يومياً.

مكاسب مؤقتة

وترجح كارولين باين، كبيرة اقتصاديي السلع في “كابيتال إيكونوميكس” بلندن، بقاء الأسواق المالية الخليجية “حساسة للمخاطر السياسية”، حسب ما أورده تقدير “ميدل إيست بريفنغ”. ويلفت الشوبكي إلى أن الصادرات النفطية من دول الخليج تسجل مكاسب مؤقتة، نظراً لاستمرار الطلب القوي، بل ارتفاعه في بعض الأحيان، نتيجة تحول الهند والصين نحو مصادر بديلة للنفط بعد العقوبات على روسيا، لافتاً إلى أن النفط الخليجي مستفيد من هكذا توجه، ما يعزز صادراته ويثبت مكانته في الأسواق العالمية.

ورغم التحسن في تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية بدول الخليج، والذي يعزوه خبراء جزئياً إلى صدور شهادات حكومية خليجية تشير إلى تراجع التوتر، ما يعكس تقييما أوليا باحتمالات استقرار نسبي، يرى الشوبكي أن التكاليف المرتبطة بالتأمين واللوجستيات تبقى مرتفعة رغم انخفاضها عن مستويات الذروة خلال ذروة الحرب، فهي ما زالت أعلى من المعدلات المسجلة قبل الأزمة.

ويمثل هذا العبء إضافة مباشرة على كلفة الصادرات الخليجية، ويعقّد من عملية التخطيط الاقتصادي طويل الأجل، ويُثقل كاهل جذب الاستثمارات الأجنبية. لذا يرى الشوبكي ضرورة إبقاء دول الخليج محافظها المالية تحت إدارة دقيقة، والتوجه نحو الاعتماد على البدائل اللوجستية، ومواصلة المراقبة الدقيقة لكل تطور ميداني أو دبلوماسي، على أن تشمل خطط الطوارئ: إدارة الاحتياطيات النفطية وتوزيع المخاطر الاستثمارية، وتعزيز البدائل في سلاسل التوريد.

كما يشدد الشوبكي على ضرورة تركيز المؤسسات المالية والحكومية بدول الخليج على تنويع محافظها، وتعزيز التمويل الآمن، وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية المستدامة، معتبرا أن تقييم “الحالة الرمادية” الراهنة بدقة هو المفتاح لاتخاذ قرارات اقتصادية استراتيجية فاعلة، والحفاظ على منعة الاقتصادات الخليجية في بيئة عالمية متقلبة.

تصعيد مفتوح

وفي السياق، يشير الخبير الاقتصادي، رائد المصري، لـ “العربي الجديد”، إلى أن الحالة الراهنة في منطقة الخليج ليست هدنة بالمعنى الدقيق، بل حالة “استمرار للتصعيد المفتوح”، حيث لم تتوقف أي حرب حقيقية منذ 7 أكتوبر، سواء في غزة أو لبنان أو سورية ولا حتى ضد إيران، ولا وجود لاتفاق رسمي يُنهي الصراع، بل تدور تفاعلات مستمرة تُبنى على رسائل ردعية متبادلة، تُرسل بالقوة الصاروخية والنارية من كلا الطرفين، ما يُبقي المنطقة في دائرة توتر دائم، لا تفصلها سوى خطوة واحدة عن اندلاع مواجهة أوسع.

ويلفت إلى أن هذه التهدئة تعرضت لضربة قوية مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الحكم، الذي دخل في سلسلة من الصفقات الاستثمارية الضخمة مع دول خليجية، ورغم أن هذه الصفقات ارتبطت بتفاهمات ضمنية حول ضرورة تحقيق استقرار أمني في المنطقة، فإن الواقع أظهر عكس ذلك، إذ تفاقمت الأزمات وتصاعد التوتر، خاصة مع رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لأي تسوية تشمل إيران، سواء في ما يتعلق بالملف النووي أو بالتفاهمات الإقليمية، ما أدى إلى تصدع المسار الدبلوماسي، وانهيار أي أمل في تهدئة حقيقية. ويرى المصري أن هذا الوضع يفاقم المخاطر الاقتصادية بدول الخليج.

وترسخ هكذا بيئة قلق النشاط الاستثماري، سواء المحلي أو الخارجي، كما تضعف من قدرة الدول على بناء استراتيجيات اقتصادية طويلة الأمد، في ظل غياب أي اتفاق واضح لوقف إطلاق النار أو ضمانات بعدم التصعيد، بحسب المصري. وهنا يشير الخبير الاقتصادي إلى أن نتنياهو، بوصفه طرفاً رئيسياً في المعادلة، لا يمكنه وقف الحرب، لأن التوقف يعني مواجهته دعاوى قضائية، وانهيار حكومته، وربما السجن، وبالتالي فهو ينتقل من صراع إلى آخر، في سلسلة متواصلة من التصعيد، تُهدد أمن الملاحة البحرية، وتعطل سلاسل التوريد العالمية، وتقوض كل الجهود التي بُذلت لبناء استقرار إقليمي.

ويخلص المصري إلى أن المنطقة بأكملها، ودول الخليج بوجه خاص، بحاجة ماسة إلى الأمن والاستقرار، ليس فقط لحماية الملاحة والطاقة، بل أيضاً لتمكينها من مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، مثل أزمة الركود والانكماش التي تلت الحرب الروسية الأوكرانية، ومن دون خروج حقيقي من دوامة الحروب ستبقى الأسواق في حالة اضطراب.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى