رأي

النظام «الدولي» الجديد لا يولد من تلقاء نفسه

كتب محمد فضل الله, في “الأخبار”:

قبل الحرب في أوكرانيا، كانت هناك مقاربات أكاديمية (يُفترَض أن الأكاديميا هي صرْح النقد غير المحدود حتى ضد الحاضرة الإمبريالية التي نَشأتْ فيها، أو على الأقل هذا ما يحلو للأكاديمي أن يتخيّله) تَعتبر أن عدم قدرة الولايات المتحدة الأميركية على حسم المعارك العسكرية حول العالم هو نتيجة لديمقراطيتها والتزامها بقيمها. كتاب جيل ميروم مجرّد نص ضمن سياق أشمل من النصوص التي بمجموعها تَنحو في هذا الاتجاه. ولكن مع نكسة الجيش الروسي في أوكرانيا اكتشفنا أنه حتى الأوتوقراطيات (التي يُفترَض أنها لا تَلتزم بحقوق الإنسان والقيم والمثل) لم تعد تَربح الحروب.
الفكرة أن الدول (بغضّ النظر عن طبيعة نظامها) لم يعد بإمكانها ربْح الحروب كما في السابق، وهذا ما يجب أن يكون موضع تحليل منهجي. الولايات المتحدة وحلفاؤها غير قادرين على ضبط الفاعل اليمني (الفقير وشبه المعدم) لأن تحولات قد طَرأتْ على بُنية السلطة وليس لأن واشنطن ملتزمة بالقيم الديمقراطية (طبعاً رأينا خلال العام الماضي أن الديمقراطيات المفترَضة لا يمكنها التسامح مع المجازر والإبادات العرقية تحت أي ذريعة، خصوصاً التقدميين الداعمين لحقوق العمال في الولايات المتحدة). هناك بعض الأصوات التي بَدأتْ تتحدّث عن أن فكرة القوة البحرية التقليدية، حاملات الطائرات الضخمة والغواصات النووية وغيرها، صارتْ من الماضي وأن المستقبل هو للأدوات الأصغر حجماً (ولكن الأكثر نفاذاً) وأقل تكلفةً مثل الدرونز وتزويدها بالذكاء الاصطناعي. أدوات مراقبتنا الأكثر ذَرّية هي نفسها أدوات مقاومتنا، ومن هنا يجب أن نَنطلق.
لكنّ هذا التحوّل التقني هو تحوّل سياسي: تهميش الدولة منذ السبعينيات لم يَقتصر على مصاريفها في الرعاية الاجتماعية، بل شمل أيضاً عدم تطوير التكنولوجيات التقليدية المرتبطة بالدولة وجيشها وأجهزتها، السلطة أصبحت أكثر تذريراً، والتكنولوجيات الفردية تطوّرتْ بوتيرة أسرع بكثير من تطوّر تقنيات الدولة التقليدية ذات الأحجام الضخمة (الإنشاءات الضخمة كانت جزءاً من المخيلة السياسية الضرورية للدولة الأمة حتى السبعينيات حين بدأتْ رومانسية الطاقة الشمسية اللامركزية ضد الطاقة النووية المركزية والحكومية، جزء من المخيلة النيوليبرالية حول اليوتوبيا الموعودة). النيوليبرالية أَنتجتْ دولة أصغر وتكنولوجيات دولتية أقل وتركيزاً متزايداً على الفضاء الافتراضي وتكنولوجياته (تمّ حلّ “الدولي” إلى الافتراضي والبيولوجي، أو البيو-سياسي، المرتبط بالاحتباس الحراري، وبالتالي فإن المفارقة تَكمن في استخدام الكثيرين لعبارة “النظام الدولي”، القديم والجديد، في حين أن الدولي تمّ محوه. من الأفضل أن نَستخدم “المحلي مقابل الافتراضي” وليس “المحلي مقابل العولمي” كما يَحلو لليمين أن ينظّر اليوم).
قسم علوم الكمبيوتر (الذي لا يمكن فصْل تطوّره أكاديمياً عن نشأة النيوليبرالية ومدّها بالأوهام التقنية حول اللامركزية واحتماليتها واقعاً، الكمبيوتر كبديل عن السياسة والذي أدّى إلى فانتازيات سيطرة الروبوتات على البشر وكمّ الإنتاج الأدبي حولها) وبسبب مركزيته السياسية في الجامعة الأميركية أَنتَج عالَماً يلائمه حتى وصل إلى قسم الفاينانس كما شرحنا قبلاً (من الصلة التي نشَأتْ بين قسم الكمبيوتر وقسم الفاينانس بداية تسعينيات القرن الماضي إلى البتكوين أواخر العقد الأول من القرن الحالي). خرّيج قسم الكمبيوتر أقدر على “الإبحار” في عالم اليوم من غيره، وفعلياً خرّيجو قسم الكمبيوتر في الولايات المتحدة، وبالذات الذين يتحوّلون إلى قسم الفاينانس بعد البكالوريوس، هم صلة الوصل الوحيدة بين البرجوازية العليا الوطنية (وفئة الألترا-أثرياء ضمناً، رغم أنه يمكن النقاش حول توصيف جديد لهم) والجامعة الأميركية. هم الوحيدون في الجامعة الذين لديهم فرص عالية بأن يتمتّعوا برواتب مرتفعة جداً بعد التخرّج، وذلك ضداً بالأدبيات التي تضع البرجوازية مقابل الجامعة (رومانسيات أن رأس المال يريد ضرب الحرية الأكاديمية، والأكاديميون يقاومونه، فيما هم فعلياً يَختلقون هذه البطولات الوهمية). ليس هناك قسم آخر في الجامعة يؤمّن رواتب وسلطة مؤسساتية بهذا المستوى. يتحدّث تقرير نُشر عام 2021 عن أن خرّيجي قسم الكمبيوتر هم الوحيدون الذين يَحتفظون بقيادة الشركات الناشئة (الستارت-آبس) التي يؤسّسونها، فيما خرّيجو البيولوجيا مثلاً يَخسرون قيادة هذه الشركات حتى منها تلك المتخصّصة في مجال البيولوجيا وذلك بسبب المساهمين، إذْ إنهم لا يرون في الأكاديميين أشخاصاً مؤهّلين لقيادة شركات ما عدا خرّيجي قسم الكمبيوتر.

هذا التشوّش، الذي يبدو وكأنه مقتصرٌ على جبهتنا اليوم، يطاول بشكل تدريجي الجهة الأميركية أيضاً

غالبية التطورات التقنية التي جَعلتْ تصنيع الدرونز أبسط وأقل كلفةً أتت من قسم علوم الكمبيوتر والأقسام المرتبطة بها (السوفتوير والهاردوير). الدفع باتجاه الاستخدام الفردي هو نفسه اتجاه لتذرير السلطة؛ بمعنى أنه ليس بالضرورة أن نَحتفي بهذه التطورات باعتبارها تحرُّراً، فالتحرّر هو مفهوم سياسي وليس تقنياً. لقد رأينا في حرب فلسطين ولبنان الأخيرة حجم القدرة الإمبريالية على النفاذ إلى الفردي وتشكيل صورة واسعة عن المجتمع من خلالها. في حرب تموز 2006 كان الكورنيت الروسي الصنع محورياً في المعركة، أما في حرب عام 2024 فإن الدرونز المُصنَّعة في لبنان وإيران، وليس في أيّ من القوى الكبرى، كانت محور المعركة. المقاومة كانت لديها القدرة على استهداف تجمّعات الجنود قبل انطلاقهم إلى أرض المعركة، وإسرائيل استَخدمتْ الدرونز أكثر من الطيران الحربي نفسه، ومن بعدها رأينا استخدام الدرونز في عملية إسقاط مدينة حلب، ومن ثم النظام، في سوريا. منذ عشر سنوات تقريباً كانت مجلات التكنولوجيا تَحتفي بثورية الدرونز في عالم المستقبل بشكل معادٍ للدولة والأحجام الكبيرة؛ توصيل الأشياء إلى الأماكن النائية من خلال الدرونز بدل فتْح طريق مُكلِف؛ هذه الأخيرة كانت حكراً على الصينيين ومبادرة الحزام والطريق الذي استعاد الفضاءوية المفقودة. يمكن القول إن التاريخ السياسي للولايات المتحدة كان طمس الفضاءوية (أوهام العالم الافتراضي وعلوم الكمبيوتر في قلبها)، والصين تسعى إلى بناء سلطتها من خلال إعادة بنائها.
هل هناك علاقة بين النقد ما بعد الكولونيالي وقدرة المستعمرات السابقة على تطوير الدرونز، وبالتالي العلاقة بين قسمَي الأدب وعلوم الكمبيوتر في الولايات المتحدة؟ وماذا نَخسر حين نَجمع داتا فردية كثيرة لنكوّن صورة كبيرة عن المجتمع ككل (المنصة الرئيسية للإبادة الإسرائيلية)؟ وما هو الاستثمار الإمبريالي في طمس الفضاءوية؟ سنَتطرّق إليها في مقالات لاحقة، ولكن ما يهمّنا هنا هو أن ما يَجري من تحولات يطاول مفهوم الدولة نفسه وذلك لا يَستثني الحاضرة الإمبريالية واشنطن بطبيعة الحال: إذا ما أَوقف دونالد ترامب (الذي كان فوزه الكبير بحدّ ذاته مفاجأة للإستابلشمنت الأميركية نفسها) الحربَ في أوكرانيا بحيث تتخلّى الأخيرة عن الأراضي التي خسرتها، وسيكون ذلك نكسةً لمشروع “الردّة” إلى ما قبل مجتمع الهوموإيكونوميكوس (محور مشروع الإدارة الديمقراطية السابقة بالنسبة إلى دول الأطراف)، لأن السؤال التالي سيكون حول جدوى كل “التضحيات” التي قُدِّمتْ (في أوكرانيا بدايةً وفي إسرائيل لاحقاً)، واحتمال أن تَعود نظرية “خيانة الغرب” لأوروبا الشرقية مجدداً، وفي نفس الوقت لن يكون بإمكان الإدارة الأميركية الجديدة استعادة مجتمع الإنسان الاقتصادوي (كِلا اليمين واليسار في حال من التشوّش بشأن الإنسان الاقتصادوي داخل الولايات المتحدة قبل أن يكون في دول الأطراف، وبرامجهما الانتخابية قائمة على نفيه).
هذا التشوّش، الذي يبدو وكأنه مقتصرٌ على جبهتنا اليوم، يطاول بشكل تدريجي الجهة الأميركية أيضاً. لكنّ التشوّش لا يَعني أن النظام الأميركي سيَسقط من تلقاء نفسه. إذا لم يكن هناك فاعلون يبادرون إلى وضْع تصورات جديدة للعالم والولايات المتحدة نفسها، فإن هذه المرحلة من التشوّش ستمرّ حتى تجد الإستابلشمنت مقاربةً جديدة متماسكة. لم يكن النظام السوري ليَسقط من تلقاء نفسه رغم كل معالم الوهن التي اعترته دون تخطيط ومبادرة تركيّيْن (بغضّ النظر عن الفاعلين المحتمَلين الآخرين). السوابق في هذا المجال غير مشجّعة: ماذا فعلت الدول المناوئة حين حلّت الأزمة المالية في الاتحاد الأوروبي أوائل العقد الماضي؟ لا شيء، والنتيجة كانت مواجهة الاتحاد بشكل شبه موحّد لروسيا حين غزتْ أوكرانيا. في حالة التشوّش الراهنة في الحاضرة الإمبريالية واشنطن، علينا أن نبادر.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى