رأي

النازية الجديدة استعادت «الحل النهائي» في غزة

كتب فهمي هويدي, في “الجزيرة” :

ما عاد مجديًا أو مفيدًا أي جهد يبذل لرصد الجرائم التي ارتكبتها – وما زالت- إسرائيل في غزة؛ لسبب رئيسي هو أننا بصدد حالة من الاستباحة الكاملة التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء في السلوك الإنساني المتعارف عليه. لذلك فإن السؤال الذي ينبغي أن يطرح بعد ستة أشهر من العدوان هو: ما الجرائم التي لم ترتكبها إسرائيل.

صحيح أن الفلسطينيين دفعوا ثمنًا فادحًا دمّر حياتهم بالكامل، لكن عواقب الانتقام المجنون الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي لا يستهان بها، ومفاعيله العاجلة والآجلة تنذر بسوء العاقبة. اعترف بذلك زعيم المعارضة الإسرائيلية في الكنيست الإسرائيلي يائير لبيد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عندما أعلن أن إسرائيل لم تعد قوة أخلاقية ولا قوة إقليمية، ولن تنتصر في المعركة.

من الشهادات المثيرة للانتباه في هذا الصدد ما نشرته صحيفة «لو فيجارو» الفرنسية اليمينية المؤيدة لإسرائيل لكاتبها رينو جيرار في مقال: «إستراتيجية إسرائيل الانتحارية»، الذي نشر في 1 يناير/كانون ثاني، جاء فيه: «يجب أن تتوفر لنا الجرأة لكي نعترف بأن تلك الصهيونية الغازية، تعدّ انتحارية لإسرائيل والغرب الداعم لها. ففرصة قبول إستراتيجية الطرد القسري لأحفاد السكان الذين عاشوا لعدة قرون في فلسطين، ضئيلة للغاية لدى جيران إسرائيل القريبين والبعيدين- وهي وصفة مثالية للحرب الأبدية. وحتى الولايات المتحدة يمكن أن تضيق ذرعًا من غطرسة اليمين الإسرائيلي، الذي يحرم الفلسطينيين من حقّهم في تشكيل أمّة.

لأن قتل المدنيين العزل تكرر طوال الوقت في غزة والضفة، فإن استدعاء جرائم هتلر ضد اليهود في الفترة بين 1933 و1945، ليس فيه مبالغة، وفيه الكثير الذي يمكن أن يقال في هذا الصدد عند مقارنة الفظائع التي ارتكبها النازيون، وحوسبوا عليها، وأخرى أكثر بشاعة ارتكبها الإسرائيليون ولم يحاسبوا عليها.

وربما كان من أقوى أوجه الشبه بين الاثنين، أن النازيين اتبعوا مع اليهود ما أطلقوا عليه سياسة «الحل النهائي» التي بمقتضاها كان يتم إطلاق النار على تجمعات اليهود، حيث وُجدوا؛ لقتل أكبر عدد منهم والخلاص منهم إلى الأبد. وذلك بالضبط ما فعله الإسرائيليون مع الفلسطينيين في غزة. ذلك أنه بعد تدمير المدن وترحيل سكانها، فإن القتل المباشر أصبح مصير كل تجمعٍ يظهر أو أفرادٍ يتحركون في مدى البصر، وهو ما يتولاه قنّاصة قوّات جيش الاحتلال الراجلة، والمسيّرات التي تحوم في الفضاء طول الوقت.

وتظلّ المقارنة بين الحدثين واردة، فإذا كان النازيون اعتبروا مواطنيهم اليهود من عرق أدنى يخلّ بصفاء العرق الآري الذي ينتمون إليه، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي يتحدث عن الفلسطينيين باعتبارهم «أغيارًا» أدنى مرتبة من شعب الله «المختار»، وحشرات أو حيوانات في قول آخر.

وكما أن النازيين أقاموا معسكرات اعتقال لليهود، فإن الإسرائيليين اعتبروا غزة والضفة الغربية بمثابة معسكرات اعتقال للفلسطينيين. وبينما أعطى النازيون اليهودَ حدًا أدنى من الثياب والطّعام، فقد ذهب الإسرائيليون إلى أبعد، فَنَزعوا عن الفلسطينيين ثيابهم ومنعوا عنهم الطعام والمياه والدواء والكهرباء.

إلا أنه في هدمه للمعابد اليهودية، لم يلجأ هتلر إلى تدمير بيوت اليهود أو محو مدنهم، كما رأينا الاحتلال الإسرائيلي يسوّي بيوتَ الفلسطينيين بالأرض، ويدمّر طوال ستة أشهر كل مظاهر العمران في غزة.

اعتماد الكيان الإسرائيلي منذ تأسيسه على الولايات المتحدة – الدولة الكبرى، والأقوى في العالم، إضافة إلى أسباب تاريخية وتوراتية أخرى – حوّل إسرائيل إلى دولة لا تضمّ فقط «شعب الله المختار»، ولكنها أيضًا كيان فوق كل الدول والقوانين والحساب في كل الأزمان.

وتلك خلاصة يعرفها المتابعون جيدًا، لكن نتائجها ماثلة أمام أعيننا، خصوصًا في حرب غزة، حيث اعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه شريكًا في الحرب، كما تقاطر أكثر الزعماء الغربيين على تل أبيب؛ معبرين عن تضامنهم وتأييدهم.

تجلى ذلك أيضًا في العربدة المجنونة التي مارستها إسرائيل في غزة والضفة، كما في تحدّيها لكل نداءات أكثر شعوب العالم لوقف الحرب، فضلًا عن ازدرائها قرارات مجلس الأمن، واحتقارها محكمة العدل الدولية.

إضافة إلى ما سبق، لا مفرّ من الاعتراف بأن ضعف العالم العربي، واختراقه من خلال «التطبيع« مع إسرائيل سوّغا للأخيرة الغلو في الاستعلاء والإفراط في الطموح، ومخططات التوسع.

برز تأثير هذه الأجواء بشكل واضح منذ نصف قرن تقريبًا، وتحديدًا منذ عام 1977 حين دخلت إسرائيل في طور سياسي جديد أنعش قوى اليمين الأكثر تطرفًا فيها. إذ منذ ذلك الحين وحتى الآن تولى حزب الليكود الذي تزعّمه مناحيم بيغن مقاليد السلطة، وتتابعت على حكوماتها أحزاب يمينية أو يمين الوسط، التي تمارس درجات من الغلو- والحكومة الحالية نموذج لذلك، فهي خليط من أحزاب الصهيونية العلمانية (الليكود)، والصهيونية الدينية (التي تتعدد مكوناتها).

وجميعها تلتقي على أهداف ثلاثة، هي: رفض إقامة دولة فلسطينية- وأن شعب إسرائيل وحده صاحب الحق الحصري في «أرض إسرائيل»، ومن ثم لا يجوز «التنازل» عن أجزاء منها- وأنه لا وجود أصلًا لشعب فلسطيني. علمًا بأن مصطلح «أرض إسرائيل» عند الصهيونيّة الدينية تشمل في صيغتها التوراتية القصوى كل المنطقة من النيل إلى الفرات.

أصبحت جماعات اليمين تتمتع طوال نصف القرن الأخير بقوة متزايدة في إسرائيل؛ لأسباب عقيدية وأمنية وسياسية. وهو ما يلقَى تشجيعًا وتمويلًا من الإدارة الأميركيّة وقيادات الإنجيليين في الولايات المتحدة.

ورغم ما يقال عن خلافٍ لنتنياهو مع الرئيس الأميركي، فالذي لا يُشك فيه أن الدعم العسكري السخي له ظلّ من أهم العوامل التي أسهمت في إطالة أمد الحرب؛ لتمكين إسرائيل من تحقيق أي إنجاز يرد لها بعضًا من اعتبارها وليحفظ للرجل ماء وجهه.

هكذا تمكنت إسرائيل بزعامة أميركية، ورعاية أوروبية من ارتكاب 2750 مذبحة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى آخر شهر مارس/آذار، قتلت فيها نحو 32 ألف فلسطيني، إضافة إلى 7900 تحت الأنقاض، ومن القتلى 14 ألف طفل، وعشرة آلاف امرأة، و4500 طالب وطالبة.

كما دمرت 32 من أصل 36 مستشفى. وشمل التدمير كل الجامعات، إضافة إلى 396 مدرسة، و200 مسجد، و3 كنائس. ولإحداث هذا التدمير والخراب ألقت إسرائيل على غزة ما يعادل قنبلتين نوويتين، في حين ظلت واشنطن وحلفاؤها يعارضون وقف إطلاق النار طول الوقت.

إن الربيع الفلسطيني الذي يدخل الآن شهره السادس، إطاره يتوج المسيرة الوطنية الفلسطينية التي لم تهدأ رحلتها النضالية من أكثر من قرن من الزمان. وللباحثين الفلسطينيين كتابات عدة تفصل في ذلك التاريخ.

من ذلك أن صبحي ياسين (الشاعر ابن غزة)، خصص فصلًا لانتفاضات فلسطين في كتابه: «الثورة العربية الكبرى في فلسطين»، ركَّز فيه على الانتفاضات التي تمت بين سنتي 1936 و1939. وأشار إلى أن أول انتفاضة شهدتها البلاد، كانت في الثامن من أبريل/نيسان 1920، تخللتها اشتباكات مسلحة بين العناصر الوطنية الفلسطينية، وسلطة الانتداب البريطاني المتواطئ مع الحركة الصهيونية، أدَّت إلى سقوط قتلى وجرحى بين العرب واليهود.

من مفارقات الأقدار أن مؤلف الكتاب تحدّث عن كيفية إضعاف الثورة حين استعان الإنجليز لأجل ذلك بعملائهم المتعاونين معهم في الداخل والخارج، لحثّهم على القيام بتلك المهمة.

وذكر من بين أولئك المتعاونين نوري السعيد وزير خارجية العراق آنذاك، إضافة إلى أحد أمراء الأسرة الهاشمية بالأردن. وكان لنوري السعيد دوره في تحقيق الهدف المطلوب بعد زيارته فلسطين، وتوسّطه لوقف العنف، واسترضاء العرب واليهود، وترتيب إجراءات تصفية الثورة التي كانت من بينها إطلاق سراح المعتقلين، والعفو العام عن المتهمين بحوادث الثورة.. إلخ.

إنّ معركة الربيع الفلسطيني، والحديث عن مآلاته، يستدعيان إلى الذاكرة تجربة الثورات العربية في2011، من حيث إنّ الحدثين الكبيرين أيقظا لدى شعوبنا أملها في استعادة حقّها في الحرية والكرامة.

صحيح أن الربيع العربي تم إجهاضه، لأسباب يطول شرحُها ويتعذّر في الظروف الراهنة الكشف عن حقائقها، لكن الحلم الذي توهّج وشغل الدنيا في حينها لا يزال حيًا في ذاكرة ووجدان قطاعات عريضة من الناس، ناهيك عن أن أصوات ومنابر الثورة المضادة لا تزال تخوض معركتها ضده بشراسة مثيرة للانتباه.

ولا بد أن يثير انتباهنا هنا أن الذين خاصموا الربيع العربي واعتبروه بابًا للخراب والفوضى، وجدناهم أنفسهم ضمن خصوم الربيع الفلسطيني، حيث سارعوا إلى التنديد بما أسموه «مغامرة» غير محسوبة، وعمدوا إلى إشاعة الإحباط والتشاؤم؛ بحجة تعريض الفلسطينيين لنكبة جديدة، تضاف إلى قائمة نكباتهم المتعاقبة.

تشغلنا المآلات التي لا يزال أغلبها في علم الغيب في ظلّ استمرار القتال المؤيَّد والمدعوم أميركيًا. في هذا الصدد ليس خافيًا أن إسرائيل تنشط في ترتيب أوضاع ما بعد انتهاء القتال، وتعمل جاهدة على تغيير جغرافيّة غزة، وإعادة تشكيل العالم العربي، بما يناسب مصالحها وتطلّعاتها.

بالمقابل فإنّ دول العالم العربي، لم تحرّك ساكنًا، وظلت متفرجة على المشهد، ومكتفية بإطلاق البيانات البلاغية التي لا تقدّم ولا تؤخّر، حتى أصبحت عمليًا في موقف الحياد إزاء ما اعتبرته قضيتها الرئيسية طوال العقود التي خلت.

في روایة أمین معلوف «الحروب الصلیبیَّة كما رآھا العرب»، ملاحظة مهمة.

خلاصتها أن المسلمين كانوا من البداية يحققون انتصارات وإنجازات على الصليبيين، لكنهم كانوا يفتقدون القدرة على التراكم التاريخي، وما یولّده من زخم وتصعيد وتسارع وموجات طاردة بمواجهة الحملات الهمجية من الغزاة.

ربما بسبب هذه الخلفية، اقتنع بعض مفكري المقاومة بأن الموجة الصھیونیّة الغازیة لن يتم الانتصار عليها أو تصفيتها بالضربة القاضية، وإنما سيتم الفوز بالنقاط والإنجازات والتراكم التاريخي، وتوحيد مساحات المواجهة. والأهم من ذلك استمرار الفعل المقاوم واستنزاف العدو، والقدرة على استيعاب التضحيات.

رغم قسوة ما جرى في غزة، فينبغي ألا ننسى أنه يمثل أحد الملفات المثيرة في مسيرة النضال الفلسطيني، وإضافة مهمة إلى التراكم المنشود. فلم تحسم معركة تحرر وطني في التاريخ دون مواجهة شرسة، ودون تضحيات غالية.

ورغم هول المقتلة والدمار الصهيوني، فالصورة في غزة ليست قاتمة تمامًا: فالجميع يعلمون أن إسرائيل لم تحقّق سوى التدمير والقتل، وتلك ليست من الأهداف الإستراتيجية التي أعلنتها عندما أعلنت الحرب على المقاومة. وبذلك فضحت نفسها دوليًا وقضائيًا وسياسيًا وأخلاقيًا، وهي تعلم ذلك، لكنها لم تدرك بعدُ أن الزمن قد تغيّر.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى