الناتو يضع خريطة الطريق لحرب باردة جديدة!
كتبت هدى الحسيني في صحيفة الشرق الأوسط.
قمة الناتو الأخيرة في فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، كانت، رغم بيانها الموسع والشامل، ذروة حسابات المصالح الفردية للدول الأعضاء، وليست تضامن هذه الدول للدفاع عن المبادئ والقيم والأهداف المشتركة وتحقيقها. ورغم طغيان الموضوع الأوكراني على جدول أعمال المؤتمر، والتكهنات عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بإجراءات سيُقبل عليها الحلف ضد روسيا، وتحديد موعد قبول أوكرانيا في الناتو، فإن واقع الأمر لم يكن كذلك. فالدول الأعضاء بغالبيتها لديها الكثير من المشكلات والأزمات الداخلية بسبب التضخم العالمي وهي لا تريد تَحّمل مزيد من الأعباء حمايةً لمجتمعاتها. أما الولايات المتحدة، عراب الحلف، فهي ترغب في استمرار حرب الاستنزاف التي تخوضها روسيا في أوكرانيا مع منع توسعها وتطورها إلى حرب شاملة. لذلك تَوافق المجتمعون على استمرار الدعم العسكري اللوجيستي للقوات الأوكرانية من دون القوة الجوية، وتأجيل دخول أوكرانيا في حلف الناتو لِما يُشكل ذلك من تحدٍّ لروسيا سيؤدي حتماً إلى تصعيد عسكري لا مصلحة للحلف فيه. وقد أعلن البيان الختامي للقمة عن قبول عضوية فنلندا بعد رفع الفيتو التركي ومن بعدها السويد بعد إتمام شروط انضمامها وأولها رفع الفيتو التركي أيضاً.
وقد يكون أكثر مَن أدرك سعي دول الناتو وراء مصالحها الفردية، هو الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي كان بارزاً ومحط أنظار المجتمعين والمراقبين. فالرئيس التركي الذي أُعيد انتخابه للتوّ بعد معركة حامية مع معارضيه، استغل قمة الناتو للحصول على مكتسبات لقاء المطالب، وقد قالها بوضوح في مؤتمر صحافي عقده في مطار فيلنيوس: إن الطريق باتجاهين، فإذا وافقت تركيا على رفع الفيتو لدخول السويد إلى الناتو فعلى الاتحاد الأوروبي أن يرفع القيود عن تركيا لدخول الاتحاد الأوروبي. وقد رد المستشار الألماني أولاف شولتز، بأنْ لا علاقة بين الأمرين. على كلٍّ، تشير كل التوقعات إلى أن تلعب تركيا دوراً كبيراً في مستقبل الناتو.
جون كيربي الناطق باسم البيت الأبيض، قال إن الرئيس جو بايدن أجرى محادثة هاتفية مطوَّلة مع الرئيس التركي من على متن طائرته الرئاسية في أثناء توجهه إلى فيلنيوس من لندن، وتواعد الرجلان على لقاء ثنائي خلال القمة لبت مواضيع جوهرية عالقة. وأكمل كيربي أن جوهر المكالمة كان حول رفع الفيتو التركي لانضمام السويد وفنلندا إلى الناتو والذي تمسكت به أنقرة بحجة إيواء البلدين مجموعات كردية معارضة تصفهم بالإرهابيين. وفي لقاء ثنائي مع الرئيس الأميركي على هامش المؤتمر نُقل أن إردوغان طلب من بايدن الموافقة على حصول بلاده على طائرات «إف-16» المتطورة لقاء رفع الفيتو التركي، وكان وعد بايدن بالسعي لإتمام صفقة الطائرات.
بالملخص المفيد دلَّت قمة الناتو الأسبوع الماضي على أن الحرب في أوكرانيا ستستمر إلى أمد طويل، حرب استنزاف قاسية مدمِّرة لشعب بأكمله، إنها دوماً لعبة الأمم، تتغلب فيها المصالح على المبادئ وتدفع الثمن شعوب مغلوب على أمرها.
وكانت قمة فيلنيوس قد اختتمت أعمالها بإصدار بيان مستفيض كأنه خريطة طريق استراتيجية تحدد الاتجاه المستقبلي للحلف في ظل نظام عالمي دائم التطور وبدا كأنه يعطي صورة تعاضد الأعضاء وتفهمهم بعضهم لبعض، وأيضاً الدور الجديد للحلف في حرب باردة جديدة. وكان هناك تجاوز للحساسيات في البيان الذي طرح ما جاء فيه كأهداف جماعية.
ويلخص البيان المفصل في معرضه الاتجاهات السياسية المحورية والمبادرات الاستراتيجية والرؤية الجماعية لأعضاء الناتو، حيث يبدو أن هناك تحولاً كبيراً في دوره وموقفه الاستراتيجي.
والمثير إشارة البيان إلى بروز حرب باردة جديدة، مما يدل على تحوُّلٍ في ديناميات القوة العالمية مع وضع حلف شمال الأطلسي نفسه ضد المنافسين الاستراتيجيين، لا سيما روسيا والصين. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يوسّع المفهوم التقليدي للأمن ليشمل المشاعات العالمية، بما في ذلك المحيطات والفضاء والتكنولوجيا والعالم الإلكتروني ويبشِّر بعصر جديد في السياسة الدولية.
بدايةً شُكِّل الحلف في الأصل كتحالف دفاعي ضد الاتحاد السوفياتي، وبمرور الوقت، اضطر إلى إعادة تعريف دوره في نظام عالمي سريع التطور، لا سيما في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وشككت هذه الفترة في هوية حلف شمال الأطلسي والغرض منه في عالم يبدو أنه تجاوز ديناميات القوة ثنائية القطب في الحرب الباردة.
ويصف البيان الحلف بأنه «المنتدى الفريد والأساسي الذي لا غنى عنه للتشاور والتنسيق والتصرف بشأن جميع المسائل المتعلقة بأمننا الفردي والجماعي». ويعني هذا، التأكيد القوي على الدور المركزي لحلف الناتو في الحفاظ على السلام والاستقرار عبر المحيط الأطلسي. علاوة على ذلك، يؤكد في نص الكلمات، التزام أعضاء الناتو بالدفاع بعضهم عن بعض وعن كل شبر من أراضي الحلفاء في جميع الأوقات، وبالتالي ضمان حماية مواطنيه البالغ عددهم مليار نسمة وحماية الحرية والديمقراطية.
ووفقاً للبيان «يستند ردع الناتو وموقفه الدفاعي إلى مزيج مناسب من القدرات الدفاعية النووية والتقليدية والصاروخية، تكملها القدرات الفضائية والإلكترونية والبحرية». ويشير هذا إلى توسع كبير في التركيز الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي إلى ما هو أبعد من اختصاصه التقليدي، ويمتد إلى مجالات الفضاء العادي والفضاء الإلكتروني والمجال البحري.
ويكشف تركيز البيان على المشاعات العالمية، عن اعتراف الناتو بالطبيعة المتطورة للتهديدات الأمنية وتصميمه على معالجتها، مع الاستعداد لتوسيع التركيز الاستراتيجي إلى ما هو أبعد من المجالات التقليدية على ظهور حرب باردة جديدة، تتميز بالمنافسة المتعددة الأبعاد والتنافس عبر مختلف المجالات.
ويشير تحول حلف شمال الأطلسي، كما هو واضح في بيان القمة، إلى استجابة للتهديدات المتصورة، في المقام الأول من روسيا والصين. ويؤكد البيان توسع الناتو في مجالات جديدة، إلى جانب توجهه الاستراتيجي نحو هاتين القوتين العالميتين. ويقول: «إن هذه العائلة من الخطط تشير إلى تحسين قدرتنا واستعدادنا لردع أي تهديدات والدفاع عنها، بما في ذلك تلك التي مع إشعار قصير أو من دون إشعار، وضمان تعزيز جميع الحلفاء في الوقت المناسب». ويدل هذا على شعور متزايد باليقظة ودورة تصعيد مقبلة من التوتر، بخاصة مع روسيا والصين.
ولا يخجل البيان من تسليط الضوء على التحديات التي تفرضها روسيا والصين. ويُدين صراحةً تعليق روسيا المزعوم معاهدة «ستارت الجديدة» وعدم امتثالها لواجباتها الملزمة قانوناً بموجب المعاهدة. كما يعترف بالتحديات المنهجية التي تفرضها الصين على الأمن الأوروبي الأطلسي. ويعكس هذا مخاوف الناتو بشأن المواقف الحازمة لروسيا والصين.
في هذا السياق، من المرجح أن تؤدي قرارات الناتو وإجراءاته الاستراتيجية إلى ردود فعل متبادلة من روسيا والصين، مما يصعّد التوترات ويعزز سرد الحرب الباردة الجديدة. ويؤكد التركيز على استعداد الناتو لمواجهة التهديدات والتزامه بالدفاع الجماعي عن هذه الديناميكية المتطورة.
ومع ذلك، يركز البيان أيضاً على أهمية تحديد الأسلحة ونزع السلاح وعدم الانتشار. ويلاحَظ أن هذه الجهود، التي تهدف إلى تحقيق الأهداف الأمنية لحلف شمال الأطلسي وضمان الاستقرار الاستراتيجي، ستأخذ في الاعتبار البيئة الأمنية السائدة وأمن جميع الحلفاء. ويشير هذا إلى أنه في حين أن حلف شمال الأطلسي مستعد لتصعيد التوترات، فإنه يسعى أيضاً إلى تحقيق التوازن بين ذلك والتدابير الدبلوماسية والالتزام بالمعايير الدولية. هذا إذا لم تصبح الحرب الأوكرانية خارج نطاق السيطرة، ولن تصبح.