رأي

الناتو ومستقبله.. آخر معارك بايدن!

كتب عبد الله السناوي, في “الشروق”:

تبدت فى قمة حلف شمال الأطلنطى «الناتو» تحديات غير مسبوقة ومصائر معلقة فى حرب أوكرانيا وغزة ومستقبل الرئاسة الأمريكية نفسها.
بعد (75) عاما على تأسيسه عقب الحرب العالمية الثانية فى (1949) بذريعة مواجهة النفوذ السوفيتى فى القارة الأوروبية يطرح سؤال المستقبل نفسه مجددا.
موازين القوى وحسابات المصالح اختلفت.
لم يعد العالم منقسما، كما كان إثر الحرب العالمية الثانية، أيديولوجيا واستراتيجيا واقتصاديا إلى معسكرين كبيرين، أحدهما بقيادة الاتحاد السوفيتى والآخر بقيادة الولايات المتحدة.
الاتحاد السوفييتى انهار وتقوض حلف «وارسو»، الذى أنشئ عام (1955) كرد فعل استراتيجى على حلف «الناتو».
لم يكن العالم العربى خارج الاستقطاب الفكرى والسياسى، الذى صاغ مرحلة الحرب الباردة.
حاولت مجموعة دول عدم الانحياز اختراق النظام الدولى الثنائى القطبية وتأسيس آخر وفق مبادئ «باندونج».
لم يعن ذلك الوقوف على مسافة متساوية بين المعسكرين المتصارعين، فقد كان التحرر الوطنى القضية الأكثر مركزية على أجندة الدول المستقلة حديثا.
بانفراد القوة الأمريكية بالنظام الدولى تعرض العالم العربى، أكثر من غيره، لما يشبه التحطيم ونالت من سلامته مشروعات التقسيم والتفكيك والاحترابات الأهلية وسقطت دول عربية عديدة واحدة إثر الأخرى.
كان مثيرا أن أكثر من ابتهجوا لسقوط الاتحاد السوفيتى هم أنفسهم الذين دفعوا أغلب الفواتير.
أمام الحسابات والتحولات الجديدة وجد الرئيس الأمريكى «جو بايدن» فى انعقاد قمة «الناتو» بواشنطن فرصة يحتاجها لتأكيد جدارته بقيادة الحلفاء الغربيين والولايات المتحدة نفسها.
هو رجل مأزوم فى خياراته الاستراتيجية على جبهتى أوكرانيا وغزة، لا حسم الأولى ولا أمكنه تجنب عواقب حرب الإبادة فى الثانية.
وهو رجل مأزوم فى أوضاعه الانتخابية التى قد تخرجه من السباق الرئاسى بتداعيات الأداء الباهت فى المناظرة الانتخابية الأولى التى جمعته مع خصمه اللدود «دونالد ترامب».
طرحت على نطاق واسع بين أنصاره ومؤيديه شكوكا قوية فى قدرته الإدراكية وتساؤلات داخل حزبه الديمقراطى إذا ما كان قادرا على الوفاء بمهام ومتطلبات الرئاسة فى السنوات الأربع المقبلة.
أهدرت الفرصة المستأنفة فى قمة «الناتو» بأخطاء إدراكية جديدة، كأن يقدم الرئيس الأوكرانى «زيلينسكى» على أنه الرئيس الروسى «بوتين»!
تعالت دعوات لاستبداله بمرشح ديمقراطى آخر قبل أن تقع الواقعة وتكون الخسارة فادحة وموجعة فى صناديق الاقتراع.
بدا مستلفتا حرص عدد كبير من القادة الغربيين أثناء تواجدهم فى واشنطن على مد الجسور مع مساعدى «ترامب» ترقبا لأية تغييرات مرجحة بالبيت الأبيض.
من زاوية أمريكية خالصة سادت أجواء قمة «الناتو» نظرتان متناقضتان.
الأولى، يتبناها «بايدن» وترى أن الحلف ضرورة أمريكية لتأكيد نفوذها فى العالم، وأنه الآن أكثر توحدا وقوة عن أى فترة سابقة منذ تأسيسه رغم اختلاف الأزمان والتحديات.
والثانية، يصرح بها «ترامب» بدعاوى التخفف من تكاليفه الباهظة على الموازنة الأمريكية رافعا شعار: «الدفع مقابل الأمن».
لم تكن هذه المرة الأولى التى يطرح فيها سؤال المستقبل على أجندة الحلف، فقد طرح بإلحاح عند انهيار سور برلين (1989): «ما جدواه وقد انهار الاتحاد السوفيتى وتفكك حلف وارسو؟».
لوقت قصير بدأ البحث عن «عدو جديد».
جرى التفكير فيما أطلق عليه «الإرهاب الإسلامى»، لكنه لم يوفر ذرائع مقنعة لوجود أكبر حلف عسكرى فى التاريخ الحديث.
بالوقت نفسه جرى رفض اقتراح روسى بالانضمام إليه.
كان الثمن السياسى لإعادة توحيد الألمانيتين تعهدا أمريكيا بعدم نشر صواريخ حلف «الناتو» على الحدود الروسية المباشرة.
بدا الإخلال بذلك التعهد ـ من زاوية روسية- سببا مباشرا فى تفجر الحرب الأوكرانية.
سادت نزعة «شيطنة روسيا»، وجرت محاولات حثيثة لعزلها وإذلالها.
فرضت عليها عقوبات اقتصادية وتجارية مشددة وصلت إلى منع دراسة آدابها فى الجامعات الإيطالية.
أمام حمى الدعايات حذر وزير الخارجية الأمريكى الراحل «هنرى كيسنجر» من مغبة محاولة إذلال موسكو.
لم يستمع إليه صناع القرار فى البيت الأبيض حتى داهمتهم التطورات بإخفاق العمل العسكرى على الساحة الأوكرانية وتمكن موسكو من اكتساب أراض جديدة.
كانت تصريحات «ترامب» فى مناظرته مع «بايدن» عن استعداده لإنهاء الحرب بالتوصل إلى تسوية مع «بوتين» دون استجابة لشروطه داعيا إضافيا لإضفاء أجواء وتساؤلات شبه معلنة بقمة «الناتو» عن مستقبل الحرب الأوكرانية وتأثيرها على الأمن الأوروبى.
فيما يمكن وصفه بالهجوم المضاد من إدارة «بايدن» تضمن البيان الختامى تصعيدا حادا
ضد روسيا والصين معا.
الأولى بصفتها «أكبر تهديد مباشر».. والثانية بوصفها «متورطة فى الحرب».
بتدخل آخر من الإدارة الأمريكية نص البيان الختامى على «تقاسم الأدوار والأعباء».
كان ذلك ردا غير مباشر باسم الحلفاء الغربيين على الحجج التى يسوقها «ترامب» للتخفف من أعباء «الناتو».
كان ذلك من مقتضيات آخر معارك «بايدن».
لم يكن مفاجئا التوسع فى إرسال سلاح متقدم إلى كييف شاملا طائرات (أف 16) والتعهد بدعم مالى جديد يبلغ (40) مليار يورو.
كان ذلك من دواعى طمأنة أوكرانيا بامتلاك قدرة الردع أن بوسعها الصمود أمام القوة الروسية حتى إذا تغيرت الرئاسة الأمريكية.
المستلفت هنا أن مشروعات ضم أوكرانيا للحلف لم تتقدم خطوة واحدة، ولا منحت حق استخدام تلك الأسلحة والطائرات داخل الأراضى الروسية.
إنها حدود القوة.
فى قمة «الناتو» تراجعت أولوية الحرب على غزة بعد تسعة أشهر من اندلاعها وتصدرت الحرب الأوكرانية وحدها المشهد كله.
كان ذلك تعبيرا عن ما يجمع الغربيين وابتعادا عما قد يفرقهم.
بتعبير رئيس الوزراء الإسبانى: «لا يصح للغرب الكيل بمكيالين فى حربى أوكرانيا وغزة».
وقد كان اعتراف أسبانيا، ودول أوروبية أخرى، بالدولة الفلسطينية حدثا مزلزلا قبل أن تعلن مدريد انضمامها إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية التى تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.
تبدت فى تصدر الجبهة الشعبية الجديدة الانتخابات التشريعية الفرنسية بتوجهاتها المؤيدة للفلسطينيين سيناريوهات ترجح اعتراف باريس بالدولة الفلسطينية بأقرب وقت ممكن.
لم تكن إدارة «بايدن» المهزوزة مستعدة أن تخوض معركة بالنيابة عن رئيس وزراء إسرائيل «بنيامين نتانياهو»، الذى يراوغها ويحاول بقدر ما يستطيع أن يربح وقتا إضافيا حتى صعود حليفه الموثوق «ترامب».
ولا كان ممكنا بناء قاعدة توافق غربية تستجيب للمطالب الإسرائيلية فى الدعم والإسناد.
إنها حسابات ومواقف جديدة ترتبت على قوة الحراك الشعبى المؤيد للفلسطينيين فى العواصم والجامعات الغربية وسوف تكون لها كلمة حاسمة سواء نجح «بايدن»، أو لم ينجح فى آخر معاركه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى