كتب أسامة أبو أرشيد في ” العربي الجديد”: “المُفْسِدُ” أو “spoiler” في القاموس السياسي الأميركي مصطلحٌ ينطبق على أفراد أو معطيات في سياقات عدّة، منها، مثلاً، مرشّح لديه فرصة ضئيلة أو معدومة للفوز، ولكنه قادر على حرمان منافس للنجاح. في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 1993، ساهم رجل الأعمال، روس بيرو، في خسارة الرئيس الجمهوري، جورج بوش الأب، الانتخابات لمصلحة منافسه الديمقراطي، بيل كلينتون. ترشّح بيرو، حينئذ، مستقلاً، وظفر بـ18.9% من الأصوات، مقابل 37.5% لبوش، و43% لكلينتون. ألقت حملة بوش المسؤولية على بيرو، زاعمة أنه لولا هجماته على سجل بوش رئيساً، ثمَّ سحبه من خزّانه البشري الانتخابي، لما هُزِمْ. وفي الانتخابات النصفية الأميركية أخيراً، لم تتحقق نبوءات “الموجة الحمراء” العاتية التي كانت تؤكّدها الغالبية العظمى من استطلاعات الرأي وآراء المحللين، بل تحوّلت إلى ما يشبه دفقة في ماء ضحل، تبلّل جرّاءها جزء من ثياب الديمقراطيين، ولكنها لم تغرقهم، ذلك أن الرياح كانت خفيفة معتدلة، ولم تكن عاتية عاصفة. لقد انكسرت حدّة الريح الجمهورية التي كانت ظروفها مواتية لاقتلاع الديمقراطيين في الكونغرس والولايات، بفعل “مُفْسِدٍ” سياسي، هو الرئيس السابق، دونالد ترامب، أو هكذا يقول الجمهوريون، في محاولةٍ لتحميله مسؤولية الفشل الذريع الذي يُخالف النماذج التاريخية الانتخابية النصفية “historical patterns” في الولايات المتحدة.
وفعلاً، يتحمّل ترامب جزءاً كبيراً من المسؤولية في عدم تمكّن الجمهوريين من قلب مجلس الشيوخ لمصلحتهم، وأيضاً في عدم تحقيقهم أغلبية واسعة في مجلس النواب. كذلك فإنه يتحمّل قسطاً واسعاً من المسؤولية في خسارة مناصب هامة في بعض الولايات الترجيحية، كبنسلفانيا وميتشغان ووسكنسن وأريزونا، إذ إن المرشّحين الذين دعمهم في الانتخابات الجمهورية التمهيدية وفازوا فيها على حساب مرشّحي الحزب الأكثر خبرة وكفاءة، كانوا غير مؤهّلين وينظر إليهم متطرّفين من غالبية الرأي العام، فكانت الخسارة حتماً مقضياً. لكن، إذا صحّ تكييف ترامب على أنه “مُفْسِدٌ” سياسياً، فإن قدرته على الإفساد لم تأتِ من عدم، ولم تنسح في فراغ. هذه هي الحقيقة. لولا تمكين الحزب الجمهوري له، ولولا تواطؤ قياداته معه، ولولا منحهم إياه شعوراً بأنه مستحقّ لكل ما يتمناه ويطلبه، ولولا جبنهم أمامه، لما كان ترامب اليوم هو ذلك الوحش الذي أعطي كل أدوات التنمّر والبطش بالآخرين، لينقضّ بعد ذلك على من عَزَّروهُ ونصروه.
وحتى نوضح أكثر، منذ أعلن ترامب ترشّحه للرئاسة، عام 2015، والحزب الجمهوري يتراجع أمامه بشكل مهين، فمن صمتهم على خطابه الشوفيني المعادي للأقليات، إلى غضّهم الطرف عن تماهيه مع المؤمنين بتفوّق العرق الأبيض، إلى منحه حصانة من الإدانة في مجلس الشيوخ عند محاولته الانقلاب على نتيجة الانتخابات الرئاسية، عام 2020. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ إننا نعلم الآن أن أحد الأسباب الأساسية لانكسار حدّة “الموجة الحمراء” في الانتخابات أخيراً، كان قرار المحكمة العليا، في شهر يونيو/ حزيران الماضي، إلغاء الإجهاض “حقاً دستورياً”، الذي يؤيده أغلب الناخبين الأميركيين. وبغضّ النظر عن الموقف القيمي والأخلاقي من هذه المسألة، فإن هذا “الحقّ الدستوري” على مدى خمسة عقود ما كان ليتم قلبُه بهذه السهولة لولا أن الجمهوريين في مجلس الشيوخ منعوا الرئيس الأسبق، باراك أوباما، من تعيين قاضٍ في المحكمة العليا، عام 2016، بذريعة أنها سنة انتخابات، رغم أنها كانت على بعد تسعة أشهر. ثمَّ، سمحوا لترامب بتعيين ثلاثة من المحافظين اليمينيين، الأخيرة بينهم قبل شهر وبضعة أيام فقط من الانتخابات عام 2020.
نضيف هنا بعداً آخر لمفهوم “المُفْسِدِ” مع البقاء في السياق الأميركي. عندما كان ترامب رئيساً أسهم سوء إدارته جائحة كورونا في أن تحوّلت الولايات المتحدة إلى بؤرتها، وقضت إلى الآن على أكثر من مليون من مواطنيها، وذلك رغم أن الولايات المتحدة هي الدولة الأثرى والأعظم والأكثر تقدّماً على وجه البسيطة. لم تعدم أميركا الإمكانات والقدرات، بشرياً وتكنولوجياً وطبياً، ولكن عدمت القيادة الكفوءة. ومرّة أخرى، ما كان ذلك ليكون لولا وجود بيئة حاضنة وفّرها الجمهوريون للمُفسِدِ السياسي، أي ترامب. من ثمَّ، لا يمكن أبداً التقليل من الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه شخص ما، أو أشخاص وجهات معينة، في إفساد واقع أو إفشال مشروع أو وأد رؤية.
السنن الكونية لا تحابي أحداً، وإن كان حجم تداعياتها يراوح بين سياقٍ وسياق، فلا يمكن قياس ما جرى لأميركا بسبب سوء التعامل مع جائحة كورونا كما لو أن مصر، مثلاً، هي التي أساءت إدارة الملف، فالقدرات والإمكانات متفاوتة بشكل صارخ. وبالتالي، ستكون التداعيات أعمق وأخطر في الحالة الثانية. المهم هنا أن “المُفْسِدَ” موجود وواقع قائم سياسياً ويوظف كمعطى في التحليل السياسي، لكنه لا يكون فاعلاً ومؤثراً من دون بيئة شعبوية وسياسية حاضنة له. والسؤال الآن: كم من تجاربنا العربية، الرسمية أو تلك المحسوبة على المعارضة وقوى التغيير والتحرير، تشكّل بيئات حاضنة لتمكين “المُفْسِدِ” السياسي وتمنحه الحصانة من النقد أو الاستدراك عليه؟ بغضّ النظر عن الإجابة، ثمن التواطؤ الأعمى يكون دوماً كبيراً وكارثياً.