المكارثية الجديدة
كتب أحمد مصطفى في سكاي نيوز عربية.
استقالة رئيسة جامعة بنسلفانيا لأنها في شهادتها أمام الكونغرس لم ترد التنازل عن حرية الفكر في جامعتها ليست إلا خطوة في مسار متصاعد في أميركا وأوروبا نحو القمع الفكري والتشدد الأصولي الذي يقمع حرية الرأي.
وإن كانت رئيسة جامعة هارفارد تفادت الإقالة رغم موقفها المشابه، إلا أن تلك هي الدول التي طالما توصف بأنها “حرة وديموقراطية ومتنورة ومتقدمة و .. و..” تفعل ما تنتقد الآخرين بشأنه وتنتهك ما تعظ العالم به.
ربما يتصور البعض أن ذلك التدهور الحالي يرجع إلى الحرب في الشرق الأوسط وعودة تهمة “معاداة السامية” كشح مسلط على أي صاحب رأي مخالف للسائد في الغرب. أو أنه بسبب سمة فصيل المقاومة الفلسطيني في غزة المصنف جماعة ارهابية. لكن الحقيقة أن ذلك التراجع في الحرية والتسامح يزيد منذ فترة.
ليس فقط لارتباطه بصعود اليمين المتطرف في المجتمعات الغربية، ولا التوجهات المتشددة في الأصولية إلى حد العنصرية أحيانا. ولا حتى كرد فعل على ظهور اصوليات أخرى في مناطق مختلفة من العالم مثل ما حدث في منطقتنا وارتبط بالدين منذ ثمانينيات القرن الماضي.
إنما هي موجة جديدة من تراث غربي، لم ينته تماما وإنما يخفت حينا ويبرز في أحيان أخرى. ربما يفسره البعض بمرحلة ضعف للحضارة الغربية عموما، وقد يرجعه آخرون لأسباب اقتصادية، لكنه في النهاية تراث ممتد لم تفلح القوانين والنظم في جعل تلك المجتمعات تتخلص منه تماما. وتبدو عودة القمع الفكري في الآونة الأخيرة أشد وطأة، ذلك لأنها تسمل ما تسمى “المؤسسة” – أي سلطات الدولة ونخبتها السياسية تقريبا باستثناءات قليلة.
وهي تختلف عما حدث في خمسينيات القرن الماضي حين وجد سناتور جمهوري أميركي مارق، هو جوزيف مكارثي، سندا له في حملة الشطط في شخص مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي وقتها جيه ادجار هوفر. بدأها السناتور مكارثي باتهام موظفين في الادارة الاميركية، خاصة في وزارة الخارجية، بأنهم أعضاء في تنظيمات شيوعية. وكان ذلك في عز الحرب الباردة ومسألة الشيوعية من أكبر مخاطر الأمن القومي الأميركي في ظل ثنائية القطبية في العالم بين واشنطن والاتحاد السوفييتي السابق.
ووجد هوفر في شطط مكارثي فرصة لممارساته التي تضمنت تحول مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى سلطة مستقلة تركز على جمع المعلومات عن المسؤولين والشخصيات العامة أكثر من التحقيق في الجرائم الجنائية. ويذكر أن هوفر جمع أرشيفا هائلا من المعلومات عن الجميع، استغله أحيانا في ابتزازهم لانفاذ ما يريده لجهازه ولنفسه.
بعد سنوات من توسع اتهامات جوزيف مكارثي لتشمل الكتاب والصحفيين والمفكرين وصناع الدراما والسينما وغيرهم، أوقف الكونجرس تلك الحملة باعتبارها شططا لا يستند إلى أساس. لكن هوفر كان قد استفاد منها بالفعل واستمر في ممارساته حتى توفي. ومع أن تلك الفترة عرفت تاريخيا بوصف “المكارثية” إلا أنها في الوقع تستحق وصف “الهوفرية”.
ليست المكارثية الجديدة، خاصة الربط بين اي انتقاد لاسرائيل ومعاداة السامية، قاصرة على الولايات المتحدة. بل ربما كانت في أوروبا، التي تعتبر “ديموقراطيات راسخة”، أشد وأسبق. وسنت دول عدة، من ألمانيا ألى فرنسا، قوانين سابقة حوكم على أساسها مفكرون وقادة رأي وأكاديميون لمجرد تفكيرهم النقدي ومجادلتهم في مسلمات “المؤسسة”.
تتجاوز المكارثية الجديدة حرية التعبير إلى شبه التنصل من مواثيق واعراف دولية. على سبيل المثال، هناك تيار قوي في حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا يطالب الحكومة بالخروج من ميثاق حقوق الانسان الأوروبي وغيره من المواثيق والمعاهدات الدولية المماثلة. المبرر الآني هو مواجهة مشكلة مهاجرين، لكن الدافع الأساسي يتجاوز قضية الهجرة إلى غيرها. كما يبحث البرلمان الفرنسي حاليا مشروع قانون ينقض الكثير من قواعد الحقوق الشخصية التي تلتزم بها فرنسا.
هناك مسيرة متواصلة منذ فترة في كثير من دول الغرب تتضمن تعديل القوانين، بل وتفسير التزامات وتعهدات دولية بشكل يساعد على التوجهات الشوفينية والتي تقترب في بعضها من وصف “الديكتاتورية” الذي تصف به تلك الدول الأوروبية والغربية دولا فيما يسمى “العالم الثالث” في سياق الضغط عليها.
بل إن تلك الممارسات وصلت أحيانا إلى حدود لم يكن المرء يتخيلها في القرن الحادي والعشرين، مثل الاطاحة بشخصيات منتخبة في اقتراع حر لمجرد أن لهم آراء لا تتفق مع السلطة – ايا كانت السلطة، حتى لو كانت سلطة تنفيذية معينة أو سلطة سياسية لا تعبر عن أغلبية.
والحقيقة أن تلك التوجهات المكارثية بدأت مع بروز الجماعات الهامشية ذات الأقلية في المجتمع وعلو صوتها مستفيدة من الديموقراطية وحرية الرأي والتعبير وغيرها من الحقوق الشخصية. ثم تنقلب على تلك الحقوق والتعهدات كأنما تستهدف بطريقة شمولية فرض رأيها ومصالحها على الأغلبية. تلك الجماعات الهامشية برزت في نهاية القرن الماضي تحت مسمى “المجتمع المدني” واستكانت حتى تمكنت من مفاصل المؤسسة والنظام وأصبحت أول من يفكر السياسيون في مداهنته وكسب رضاه واستخدمتها دوائر الأعمال لتعزيز مصالحها.
ويتذكر المرء الآن أن ذلك “المجتمع المدني” كان السند الأساسي لبروز الفاشية في ايطاليا واسبانيا والنازية في ألمانيا نهاية النصف الأول من القرن الماضي. وكانت كل تلك الأحزاب اشتراكية يسارية، وما إن وصلت إلى السلطة تحولت بدعم مجتمعها المدني وقتها إلى حكم عنصري.