رأي

المغرب… وقائع عن السير في الاتجاه الخاطئ

كتب محمد طيفوري, في “العربي الجديد” :

مرّت في الشهر الماضي (فبراير/ شباط) الذكرى السنوية الرابعة عشرة لحراك 20 فبراير (2011)، الذي انطلق في المغرب ضمن موجة الربيع العربي، المطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد والعدالة الاجتماعية وبناء دولة الحقّ والقانون. وهي ذكرى يطاولها النسيان تدريجياً، وتوشك أن تتحوّل طيفاً في الذاكرة الجماعية، بالنظر إلى ما آلت إليه الأوضاع في المملكة السعيدة، بعد مضي نحو عقد ونصف العقد على لحظة نادرة في التاريخ المغربي المعاصر، كان إجماع المغاربة فيها قائماً على السعي نحو مغرب آخر.
فعلاً، تحقّق هذا المغرب، لكنّه مغرب الأقلّية فحسب، وليس ذاك المغرب الذي كان الجميع يحلم به، فالمتأمّل في أحوال البلاد والعباد يدرك أن دار المخزن عادت إلى حالها، أي إلى ما قبل 2011، وربّما الوضع اليوم أسوأ، فممارساتٌ كثيرة، في السياسة كما الاقتصاد، كانت وراء الكواليس في الخفاء، أضحت اليوم تجري أمام الأشهاد من دون أن تُحرّك ساكناً، ما يؤكّد أن السياسة تحتضر، إن لم تكن قد ماتت.

كيف فشلت استراتيجية باسم “مخطّط المغرب الأخضر” العابر للحكومات، بميزانية بلغت 4.5 مليارات دولار، في الحيلولة دون “تضرّر فئات كبيرة من أبناء الشعب”؟

شهد المغرب في الأسابيع الأخيرة أربع وقائع، لو حدثت في سياق آخر غير القائم حالياً، لملأت الدنيا وشغلت الناس. لكن، لا شيء من ذلك حدث، ببساطة لأن رجال الأعمال أحكموا قبضتهم على المشهد، بعد أن مزجوا السياسة بالتجارة معزّزين ذلك بالولاء الإعلامي، فصار الكلّ يتحدّث بلغة الأرقام، الهواية المفضّلة لدى أهل البزنس، عن منجزات ومؤشّرات، وحتى عن “ثورة اجتماعية”، يكاد المواطن المغربي البسيط يعدم لها أثراً في حياته ومعاشه اليومي.
بعد ربع قرن على توليه حُكم المغرب، يُوجه الملك محمد السادس في رسالة موجّهة إلى الشعب (26 فبراير/ شباط 2025)، بعدم ذبح الأضحية للمرّة الأولى في عهده، وذلك يُعزى حسب الرسالة الملكية “لما يواجه بلادنا من تحدّيات مناخية واقتصادية، أدّت إلى تسجيل تراجع كبير في أعداد الماشية”، التي تضيف أن “القيام بها (الشعيرة) في هذه الظروف الصعبة سيُلحق ضرراً محقّقاً بفئات كبيرة من أبناء شعبنا، لا سيّما ذوي الدخل المحدود”.
تُمثل الرسالة الملكية صكّ إدانة مباشرة للحكومة ورئيسها، الذي أمضى 14 سنة في رأس وزارة الفلاحة والصيد البحري، منذ دخوله عالم السياسة عام 2007، مع حكومة عبّاس الفاسي. كيف فشلت استراتيجية باسم “مخطّط المغرب الأخضر” العابر للحكومات المتعاقبة على المغرب، بميزانية بلغت 4.5 مليارات دولار من الدعم العمومي، في الحيلولة دون “تضرّر فئات كبيرة من أبناء الشعب”؟
بشّر “مخطّط المغرب الأخضر” المغاربةَ بثورة في القطاع الفلاحي بالمغرب، ووعدهم بهدف غير مسبوق، ألا وهو “تحقيق الأمن الغذائي” في المملكة (راجع مقال الكاتب “المغرب الأخضر وأكذوبة الأمن الغذائي” في “العربي الجديد”، 2022/05/17). لم يتحقّق شيء من هذا، والتقييم لمؤسّسة عمومية، هي المندوبية السامية للتخطيط (مؤسّسة إحصاء وطنية)، في تقرير لها قبل ثلاث سنوات (2022)، حذّر، فيما يشبه التنبّؤ، من واقع المغرب اليوم: “أيّة آفاق للتبعية الغذائية للمغرب بحلول عام 2025؟”.
لقد فشلت سنوات طويلة من مخطّط يرفض صاحبه أن يخضعه للمراقبة أو التقييم، رغم عيوبه الكثيرة في الحفاظ على ثروة حيوانية تضمن لحوالي ستة ملايين أسرة مغربية أضحية في العيد بثمن مناسب، بعد تراجع القطيع بأكثر من 38%. كما فشلت أنواع شتى من سياسات الدعم (دعم الأعلاف ودعم استيراد المواشي…) في حماية القدرة الشرائية للمواطنين، فبلغ الكيلوغرام الواحد من اللحم الأحمر سعراً قياسياً، بعد انتقاله من 50 درهماً (5 دولارات) إلى 120 درهماً (12 دولاراً).
هكذا تبخّرت وعود الأمن الغذائي فجأةً، فصار الاستيراد المدعوم من المال العام هو الحلّ لضمان تزويد الأسواق المغربية بالمواد الأساسية، وصار مخطّط يدَّعي جلب العملة الصعبة من طريق التصدير أكبر مستنزفٍ لها، وتلاشى شعار العدالة الاجتماعية في القطاع الفلاحي بتعميق الفوارق بين أقلّية (كبار الفلاحيين) يتدفّق إليها المال العمومي من كلّ جانب، وأغلبية (صغار الفلاحيين والمزارعين) تقاوِم قساوة الجفاف وتقلبات الساسة من أجل البقاء، ما يقود هنا إلى سؤال صعب: ماذا بقي من أطروحة ريمي لوفو “الفلاح المغربي المدافع عن العرش”؟
في السياق نفسه، تابع المغاربة قاطبةً واقعةَ الشاب عبد الإله “مول السردين” (صاحب السمك) من مدينة مراكش، الذي تحوَّل نجماً لمواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن قرّر بيعَ سمك السردين بثمن خمسة دراهم للكيلوغرام (0.5 دولار)، فيما يصل السعر في محلّات أخرى إلى 20 درهماً (دولاران)، ليفضح بذلك النهب الذي يتعرّض له المواطن يومياً بيد سلسلة من المضاربين والمحتكرين، ممّن يرفعون الأثمان ثلاثة وأربعة أضعاف السعر الحقيقي للمنتوج.
نجح شاب صغير بهاتف نقّال، وبحساب في منصّة تيك توك، في تعرية أخطبوط الفساد في قطاع بيع السمك، بينما اختارت الحكومة غضّ الطرف والصمت، رغم امتلاكها ترسانة قوية من القوانين (حرّية الأسعار والمنافسة، حماية المستهلك، الزجر عن الغش في البضائع…)، التي تبقى حبراً على ورق، فمن شأن السعي نحو تطبيقها أن يهدّد مصالح أعضاءٍ في الحكومة، بما في ذلك رئيسها صاحب أكبر شركة لتوزيع المحروقات في البلاد.
ترتبط الواقعة الثالثة بصور مؤلمة لمنكوبي زلزال 8 سبتمبر (2023)، تُحاصرهم الثلوج داخل الخيام، بعد مرور سنة ونصف السنة على فاجعة الحوز. هكذا تقضي الأغلبية ثاني شتاء في “العراء”، في سيناريو غير متوقّع لأكبر المتشائمين. وعود كثيرة قُطعت من دون أن يتحقّق منها كثير في أرض الواقع، سواء في برامج تأهيل القرى المدمّرة، أو الدعم المخصّص لإعادة بناء المساكن، فالمنجز، باعتراف رئيس الحكومة نفسه، لا يتعدّى 20% من إجمالي المنكوبين.

لا يحتاج المواطن المغربي البسيط إلى استعراض سمفونية النسب والمعدّلات، بقدر ما يريد تلمّسها في واقعه

وهذه مماطلة تؤكّد بها الحكومة حقيقة “المغرب المنسي”، التي لطالما اعتبرها كثيرون مجرّد مبالغة منّا أبناء هذه المناطق، فلو لم يكن كذلك، لما تجرّأ رئيسُها على الكشف عن هذه النسبة (20%). وهل الدولة جادّة فعلاً في الوفاء بوعودها في تأمين حياة كريمة لمواطنيها؟… إن كان الجواب بالإيجاب، فما سرّ هذا البطء القاتل في إعادة الإعمار؟ وأيّ تفسير للحكم ضدّ رئيس تنسيقية ضحايا زلزال الحوز (سنة حبساً) وثلاثة نشطاء آخرين (أربعة أشهر حبساً)؟
واقعة تفشّي فيروس بوحمرون (داء الحصبة) في بلاد تنافس إسبانيا في بناء أكبر ملعب لاحتضان نهائيات كأس العالم 2030، فقد فاق إجمالي الإصابات 25 ألف إصابة، و120 حالة وفاة، أغلبها في صفوف الأطفال، بعد أن اقتحم الوباء المدارس والسجون في عدد من جهات المملكة، مسجّلاً بذلك وضعيةً وبائيةً لم يشهدها البلد منذ عام 1986.
ما أكثر الوقائع، التي اعتقد المغاربة أنها أضحت جزءاً من التاريخ في زمن الملك الراحل الحسن الثاني، قبل أن يكتشفوا عودتها مع حكومة الكفاءات التي ترفع شعار “تستحقون أحسن”، لأنها ببساطة لا تدخل في دائرة أولويات حكومة “أهل البزنس”، مستغلّين فراغ الساحة السياسية سوى من أصوات قليلة (في السياسة والإعلام) لا تقدر على شيء أمام قوة وسطوة تحالف رجال الأعمال.
وجب تذكير زمرة أهل البزنس، الوافدين على السياسة، أن منطق الأعمال لا يستقيم في عالم السياسة، فالأرقام والاستقواء والتبخيس (المنتقدين) تبقى محدودةَ الفعّالية والأثر، لأن المواطن المغربي البسيط لا يحتاج إلى استعراض سمفونية النِّسب والمعدّلات، بقدر ما يريد تلمّسها في واقعه، في السوق والمستشفى والإدارة… وما دون ذلك فمجرّد أضغاث أحلام، رجال أعمال يدّعون وصلاً بالسياسة. ولكم في تونس بن علي عبرة يا أولي الألباب.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى