المغرب والجزائر.. المصالحة خيار إستراتيجي لمواجهة التحديات

كتب محمد الصالحين الهوني في صحيفة العرب.
فلتكن دعوة الحوار بداية عهد جديد، حيث يلتقي الشعبان على درب واحد، ويكتبان معًا قصة مغاربية عنوانها الأمل والكرامة والعيش المشترك.
في الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، وجّه الملك محمد السادس دعوة صريحة إلى الجزائر من أجل “حوار أخوي صادق”، مؤكدا استعداد المغرب لفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية. هذه الدعوة، التي جاءت بعد قرار مجلس الأمن رقم 2797 الداعم لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، ليست مجرد خطوة دبلوماسية، بل نداء إنساني يضع الشعبين في قلب المعادلة: شعبان يجمعهما أكثر مما يفرقهما، ويستحقان أن يعيشا في سلام وتكامل.
منذ استقلال المغرب عام 1956، ظلّت العلاقات بين البلدين محكومة بتوترات متقطعة، بلغت ذروتها في حرب الرمال سنة 1963، ثم تحولت إلى نزاع مزمن بعد المسيرة الخضراء عام 1975 وانسحاب إسبانيا من الصحراء.
منذ ذلك التاريخ أصبح الملف الصحراوي محور خلاف سياسي ودبلوماسي، وأدى إلى إغلاق الحدود عام 1994 وتجميد مشروع الاتحاد المغاربي. لكن هذه النزاعات لم تكن يوما تعبيرا عن رغبة الشعبين، بل عن حسابات سياسية ضيقة. فالمغاربة والجزائريون يتقاسمون اللغة والدين والتاريخ والعادات، ويجمعهم حلم مشترك في مستقبل أفضل.
دعوة الملك محمد السادس ليست مجرد مبادرة دبلوماسية، بل نداء للشعوب كي تستعيد حقها في العيش بكرامة وأمان
عندما انتُخب عبدالمجيد تبون رئيسا للجزائر في ديسمبر 2019، ورث ملف الصحراء بكل تعقيداته. لكنه لم يكن طرفا في بدايات النزاع، وهذا يمنحه فرصة تاريخية ليكون صانع سلام. وراثة الأزمة لا تعني الاستسلام لها، بل يمكن أن تكون مدخلا لإعادة تعريف السياسة الجزائرية تجاه المغرب، بعيدا عن إرث المواجهة وقريبا من منطق الحوار. الاستجابة لدعوة الملك محمد السادس لن تُعتبر تنازلا، بل خطوة شجاعة نحو بناء مستقبل مشترك، حيث تُقدَّم مصالح الشعبين على حسابات الماضي.
من منظور إنساني، يحرم استمرار القطيعة بين المغرب والجزائر ملايين المواطنين من أبسط حقوقهم: حرية التنقل، فرص العمل، والتكامل الاقتصادي. التجارة البينية بين دول الاتحاد المغاربي لا تتجاوز 3 في المئة من إجمالي التجارة، مقارنة بـ70 في المئة في الاتحاد الأوروبي. هذا الرقم وحده يكشف حجم الخسارة التي يدفعها الشعبان بسبب نزاع سياسي مزمن. فتح الحدود وإحياء الاتحاد المغاربي يمكن أن يضاعفا فرص الاستثمار، ويتيحا استغلالا مشتركا للموارد الصحراوية، من الفوسفات إلى الطاقة الشمسية، بما يعود بالنفع على الجميع.
لكن الطريق إلى الحوار ليس سهلا. جبهة بوليساريو، المدعومة من الجزائر، رفضت القرار الأممي واعتبرته “انحيازا” للمغرب. هجماتها الأخيرة على مناطق مغربية تشكل اختبارا للردع، وقد تؤدي إلى تصعيد عسكري إذا لم يتم احتواؤها. كذلك، يتطلب الحوار إرادة سياسية حقيقية من الجزائر، التي تواجه ضغوطا داخلية وتحديات اقتصادية واجتماعية. ومع ذلك، فإن اللحظة الراهنة تحمل فرصة نادرة: دعم أممي واضح لمبادرة الحكم الذاتي، ورغبة مغربية معلنة في فتح صفحة جديدة، وضغوط اقتصادية تجعل التعاون أكثر إلحاحا.
الأهم أن الشعوب باتت أكثر وعيا بأن استمرار النزاع لا يخدمها. في المغرب، يُنظر إلى دعوة الملك محمد السادس كخطوة نحو استقرار إقليمي يفتح آفاق التنمية. وفي الجزائر، يدرك المواطنون أن العزلة الإقليمية تعمّق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. الملايين من الشباب في البلدين يرون في التعاون المغاربي فرصة للعمل والازدهار، ويعتبرون أن السلام ليس خيارا سياسيا بل ضرورة حياتية.
أنتم أكثر من مجرد جيران، أنتم إخوة في الدم والذاكرة، في اللغة والدين، في الأغاني الشعبية التي تتشابه، وفي الحكايات التي تتقاطع عبر الحدود. لقد طال زمن القطيعة
إن وراثة تبون لهذا الملف تمنحه شرعية جديدة: فهو ليس مضطرا إلى الدفاع عن مواقف الماضي، بل يمكنه أن يقدّم نفسه كرئيس يفتح صفحة جديدة، ويضع مصالح الشعب الجزائري فوق الحسابات التاريخية.
وإذا استجاب لدعوة الملك محمد السادس، يمكن أن يُسجَّل اسمه كزعيم صنع المصالحة المغاربية، وحوّل وراثة النزاع إلى صناعة سلام. هذه ليست مجرد فرصة سياسية، بل مسؤولية تاريخية أمام الأجيال القادمة.
في النهاية، المغرب والجزائر ليسا مجرد دولتين متجاورتين، بل شعبان متداخلان في التاريخ والجغرافيا والثقافة. استمرار القطيعة بينهما جرح مفتوح في جسد المنطقة، بينما المصالحة يمكن أن تكون بداية لعهد جديد من الاستقرار والازدهار.
دعوة الملك محمد السادس ليست مجرد مبادرة دبلوماسية، بل نداء للشعوب كي تستعيد حقها في العيش بكرامة وأمان. وإذا التقط تبون هذه اللحظة، يمكن أن يتحول الحلم المغاربي من شعار إلى واقع، ويُكتب فصل جديد في تاريخ المنطقة عنوانه: سلام الشعوب أقوى من نزاعات الماضي.
أنتم أكثر من مجرد جيران، أنتم إخوة في الدم والذاكرة، في اللغة والدين، في الأغاني الشعبية التي تتشابه، وفي الحكايات التي تتقاطع عبر الحدود. لقد طال زمن القطيعة، وطال معه الانتظار، لكن اللحظة الراهنة تحمل وعدًا جديدًا: أن تتحول الحدود المغلقة إلى جسور، وأن يصبح الماضي درسًا لا سجنًا. إن السلام بينكما ليس هدية من الساسة، بل حق من حقوقكم، وواجب على القادة أن يصونوه. فلتكن دعوة الحوار بداية عهد جديد، حيث يلتقي الشعبان على درب واحد، ويكتبان معًا قصة مغاربية عنوانها الأمل والكرامة والعيش المشترك.



