المصارف أمام تحديات الاقتحامات والقضاء
كتب صلاح سلام في “اللواء”:
غارات المودعين المتزامنة على فروع عدد من المصارف، تُجسّد الغضب المتفجر لأصحاب الودائع ضد الإجراءات المذّلة التي يتعرضون لها مقابل الحصول على بضعة مئات من الدولارات، لا تسد رمق عيالهم، ولا تؤمن أقساط المدارس لأولادهم، وقطعاً لا تكفي لتأمين الأدوية لأصحاب الأمراض المستعصية.
ما حصل من إقتحامات يتجاوز القوانين المرعية الإجراء، ولكن لا بد من الإعتراف أيضاً أن حرمان المودعين من أموالهم وجنى عمرهم ، لا يتجاوز القوانين وحسب، بل يُخالف بنود العقد الموقع بين البنك والمودع، والذي يحفظ للأخير حقه بأمواله، وحرية التصرف بها، إذا لم تكن مُقيدة بإيداعات لفترة زمنية محددة.
ما حصل يوم الجمعة الماضي ليس وليد الساعة، بغض النظر عما يردده البعض عن مخطط مُدبّر لإشاعة الفوضى وإحراج بعض أطراف السلطة المتهالكة، بل هو أساساً نتيجة طبيعية لتراكمات الممارسات المذلّة للمصارف، وما تخللها من عذابات للمودعين على مدى الثلاث السنوات الأخيرة.
الكارثة الحقيقية، والتي من شأنها أن تُفجّر ثورة عارمة، هي في تواطؤ الحكومة والمصارف على تحميل المودعين النسبة الأكبر من الخسائر في الخطة البتراء، حيث يتم ضمان الودائع بحدود مئة ألف دولار فقط، تُسدد على فترة خمس أو سبع سنوات، والباقي يُحول إلى أسهم في المصرف، أو يُدفع مقسطاً بالليرة اللبنانية!
وبإنتظار إقرار ما سمّي زوراً «خطة التعافي»، التي تقضي على كل عوامل التعافي للإقتصاد الوطني، وتقضم ما تبقى من أموال المودعين إغتصاباً، تغيب كل المعالجات المتوازنة والمفيدة، للخروج من دوامة الأزمات والمآزق التي يتخبط فيها البلد، والبحث عن حلول عادلة تضمن حقوق المودعين، وتُعيد ترميم وهيكلة القطاع المصرفي، وتستطيع تفعيل موارد الدولة بتطوير أساليب الإستثمار وتحسين العائدات في مختلف المرافق الخدماتية الرسمية، من المرافئ إلى مصالح الكهرباء والمياه والنقل والإتصالات، وغيرها كثير.
وإذا كانت الحكومة تتحمل المسؤولية الأولى في وضع خطط الإنقاذ المالي والاقتصادي، فإن على جمعية المصارف أن تتحمل مسؤولياتها، ليس في المشاركة في مناقشة الخطط الحكومية وحسب، بل في البحث عن قواعد معقولة للتعامل مع المودعين، وإستعادة الثقة الداخلية والخارجية بالقطاع المصرفي اللبناني.
الرد على الاقتحامات الأخيرة لا يكون بالإقفال ثلاثة أيام، وكأنه قرار إنتقامي من أصحاب الحقوق، بل في عقد جلسات ماراتونية مع حاكم البنك المركزي والجهات المالية الحكومية المعنية، للتوصل إلى صيغة تُخفف من معاناة المودعين، ومن إحراجات البنوك في الوقت نفسه، لإيقاف ما يجري من مواجهات واقتحامات وبهدلات للمصارف وموظفيها، والتي تُسيء إلى ما تبقى من سمعة القطاع المصرفي في الداخل والخارج، والذي يبقى شريان النهوض الإقتصادي في مسيرة الإنقاذ.
قرار الإقفال سيزيد النقمة على المصارف، ولن يوقف عمليات الإقتحام في أكثر من منطقة، ولن يساعد على تحسين أجواء العلاقة الحالية بين المصرف والمودع، الذي يريد الحصول على ما يحتاجه من أمواله لشراء أدوية، أو تسديد فاتورة إستشفاء، أو دفع أقساط الأولاد، وغيرها من ضرورات الحياة اليومية.
وإذا بقيت المصارف على عنادها الحالي في تجاهل حاجات مودعيها، وعدم التنازل عن جزء من أموال أصحابها المهرّبة إلى الخارج، سيصبح القطاع المصرفي أمام تحديات معضلتين، مع ما تحملانه من تداعيات سلبية على البنوك وأصحابها. الأولى أن عمليات الإقتحام من صغار المودعين ستزداد وتتوسع، وقد تؤدي إلى الوقوع في مطبات اللجوء إلى العنف، وما قد يؤدي إلى سقوط ضحايا ومضاعفات جمّة. المعضلة الثانية أن الدعاوى القضائية من كبار المودعين ستتضاعف، خصوصاً في الخارج، بعد صدور أحكام في باريس ولندن تقضي برد الودائع المليونية إلى أصحابها.
المفارقة أن جمعية المصارف لم تحاول إيجاد المخارج المقبولة لهذه الفترة الحرجة من التوتر مع المودعين، كما أنها لم تضع خططاً مدروسة لإنقاذ القطاع المصرفي من الإنهيار الشامل، خاصة على مستوى المصارف الكبيرة القادرة على إستعادة الثقة والعافية مع زبائنها ومراسليها في الخارج أسرع من المصارف الصغيرة، والتي يتفاقم تعثرها يوماً بعد يوم.
أما الإصرار على محاولات تحميل المودعين الغلابى، القسط الأكبر من خسائر الهدر والسرقات في الدولة العليّة والمنظومة السياسية الفاسدة، فمن شأنه أن يقود إلى إضطرابات ومضاعفات، تنسف ما يتغنى به أهل الحكم من بقايا للإستقرار الهش في زمن الإنهيارات.