المسمار من العصر الحجري إلى الذكاء الاصطناعي.
يمكننا تخيل أن كل الطائرات ستسقط، والغواصات والسفن ستغرق، والسيارات تتفكك في مكانها، وأغلب الأبنية العالية وحديثة البناء ستقع بمجرد تخيل إزالة المسامير والبراغي منها دفعة واحدة.
المسامير والبراغي أدوات بسيطة نراها في زوايا الخزائن وعلى جوانب الطرق ولا نعيرها أي أهمية إلا حين نحتاجها، ففي اللحظة التي تحتاج فيها إلى مسمار ولا تجده أمامك ستشعر بمدى أهميته في تسهيل الحياة وفي جعل الأشياء من حولنا مترابطة وذات أشكال معينة وثابتة، وعلى رغم أنه آلة بدائية جداً إلا أنه ما زال يستخدم في زمن التطور والتقدم والذكاء الاصطناعي وعصر الاتصالات بالأهمية والحاجة نفسيهما اللتين كان الإنسان الأول يستخدمه فيهما خلال مرحلة تطوره.
وبدءاً من العصور الأولى كانت المسامير الكبيرة سلاح إنسان العصر الحجري للصيد، والإبر المصنوعة من عظام الحيوانات وحسك الأسماك سلاحه لصناعة ملابسه أو خيامه أو مصنوعاته التجارية الأولى كالكرسي والطاولة وآلات النسيج، والمسمار من أول الآلات الميكانيكية التي اكتشفها البشر في الطبيعة وعرفوا كيفية استخدامها.
تطور وتعقيد
وتطور المسمار إلى براغي كثيرة التعقيد مصنوعة من مواد كثيرة بعضها شديدة الصلابة تتناسب مع حاجة الآليات الكبيرة كالطائرات والسفن وموتيراتها الضخمة، التي لكل موقع منها مسمار وبرغي يحمل رقماً معيناً يحدد نوعه وحجمه وقدرته على التحمل، فما زال المسمار ضرورياً لتعليق لوحة على الحائط وكذلك تثبيت جناح طائرة عملاقة.
عندما بدأت صناعة ضبط البراغي لم تكن قوتها محددة تماماً كما هي اليوم، ومع إدخال الخصائص الحديثة والتحديثات الأخيرة أصبح وصف قوة البرغي وطرق الاختبار المستخدمة أكثر دقة، وباتت ضرورات صناعية، فمنها المسامير الصغيرة التي تستخدم في الكاميرات والنظارات والساعات والإلكترونيات، أو المسامير والبراغي العامة المتشابهة التي تستخدم في أجهزة التلفزيون والمنتجات الكهربائية والآلات الموسيقية والأثاث، وكذلك هناك المسامير والبراغي والصواميل الكبيرة المستخدمة في الهندسة الضخمة والبناء المعقد والجسور ومعدات النقل والطائرات والترام والسيارات.
من برغي أرخميدس إلى جهاز ضبط في الأدوات الجراحية الرومانية، وصولاً إلى ربط مكابس العصور الوسطى، أصبح ينظر إلى المسمار تدريجاً على أنه أداة ميكانيكية واسعة الاستخدام، حتى طاول صناعة السلاح والساعات الدقيقة، إلى أن دخل في مكونات صواريخ الفضاء والمحطات المدارية.
كان برغي أرخميدس يستخدم لرفع المياه من المستويات الأدنى إلى الأعلى، وكان له تطبيقات في نظم الري والصرف، لكن في عصر الثورة الصناعية خلال القرن الـ 18 أسهم المخترع صانع الساعات الإنجليزي جيسي رامسدن بشكل كبير في تصميم البراغي ذات الدقة وكذلك مخارط تقطيعها، التي لعبت دوراً حاسماً في توحيد معاييرها.
قوة دورانية
أصبحت البراغي تستخدم لربط المواد عن طريق تجميع القوة الدورانية مع القوة المحورية، وبشكل شائع في الأعمال الخشبية والمعادن والبناء وتجميع الآلات، وكذلك بناء الهياكل وتجميع الأثاث وتأمين تركيب المكونات الميكانيكية، فيما أصبح استخدام المسامير أكثر شيوعاً مع تقدم علم المعادن، مما سمح بإنتاج مواد أقوى تستخدم في الهندسة المعمارية والجسور والآلات.
كان المسمار يصنع من العظم والخشب اليابس حتى عام 1606 عندما حاز الإنجليزي بولمر بيفيس براءة اختراع عن جهازه الميكانيكي لتقطيع الحديد وصقل المسامير بأحجام مختلفة، لكن في عام 1795 اخترع جاكوب بيركنز آلة لصنع المسامير قطعة واحدة، أي الرأس والجذع في عملية واحدة، وشكل هذا الجهاز ثورة حقيقية في عالم الصناعة، إذ وفرت هذه الطريقة من عملية التلحيم الحراري لأجزاء المسمار، وجعل الإنتاج يصل إلى 200 ألف مسمار في اليوم الواحد، ثم أنتج الصناعي وليام هرسيل آلة لصنع المسامير الفولاذية، التي تتميز بقدرتها على تحمل الضغط والتغيرات المناخية المتقلبة، حتى وصلنا إلى أكثر من 300 نوع حالياً.
الكتابة المسمارية
ما أثار إعجاب علماء الآثار هو اكتشاف الألواح الطينية المكتوبة بالمسامير في بلاد ما بين النهرين، فتبين أنهم منذ بدايات تطورهم لم يتعاملوا مع المسمار بصفته آلة بسيطة تقوم بالربط بين الأشياء بل كونه قلماً أو آلة كاتبة.
أداة الكتابة المسمارية كانت عجينة الصلصال التي تتم الكتابة عليها وهي لينة، ومن ثم تحرق وتجف إلى حد الصلابة.
والكتابة المسمارية هي اللغة المكتوبة للآكاديين التي أصبحت أم اللغات المكتوبة والمقروءة معاً بمفهوم اللغات القديمة، فكانت تنقش فوق ألواح الطين والحجر وغيرها من الأسطح قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، وظهرت أولاً جنوب بلاد الرافدين وكان يتكلمها البابليون والآشوريون ولا تمت بصلة إلى أي لغة معاصرة، كما كانت اللغة المعتمدة لدى الشعوب القديمة في جنوب غربي آسيا.
في القرن الـ 19 تمكن مجموعة من الباحثين وعلماء الآثار من فك رموز الكتابة التي احتوت على عديد من التعليمات الإدارية والتاريخية والفلكية والطلاسم والقواميس المسمارية التي جمعت وحدها ما يعادل 130 لوحاً طينياً موجوداً في المتحف البريطاني بسوريا.
وازدهرت الكتابة المسمارية إبان حكم الملك حمورابي (1728– 1686 قبل الميلاد) وانتشرت بين الناس في تلك الفترة، وأصبحت اللغة الرسمية في المعاملات التجارية والمراسلات والشؤون الحياتية العامة، وكذلك نصوص الأدب والعبادات، وجمع الملك آشوربانيبال الكتب من أنحاء البلاد وخزنها في دار كتب خاصة طلب تشييدها في نينوى بالعراق.