رأي

المتغيرات الدولية والحرب في اليمن

كتبت بشرى المقطري في “العربي الجديد”:

بمضي الوقت، تعيد الحرب الروسية – الأوكرانية فرز المجتمع الدولي، بما في ذلك قيمه السياسية والإنسانية، إلى جانب تكتلات وتحالفات سياسية متغيرة تُبنى على قاعدة الرابحين اليوم والخاسرين غداً من الأزمة الأوكرانية، بيد أنّ انتقال الحرب إلى أوروبا، بقدر ما هو تصدّع لسياسة إدارة التوترات الدولية لحماية مصالحها، والذي طالما حكم العالم، فإنّه أعاد تقسيم العالم اقتصادياً إلى معسكرين: الدول المصدرة للنفط والغاز، وبقية الدول التي يتباين ضررها جرّاء نقص إمدادات الطاقة حالياً، إلى جانب تداعيات اقتصادية عديدة تشمل كلّ مظاهر الحياة اليومية، إلّا أنّ الأهم هو قدرة مصادر الطاقة على صياغة سياسات الدول وأولوياتها، وكذلك توظيفه سلاحاً في هذه المعركة، والذي قد يعني مقايضة بلدان حروب الوكالة التي تنشط فيها دول النفط الغنية، بعيداً، لا عن مصالح الشعوب فقط، وإنما عن رغبة وكلائها المحليين الصغار.
من نواح عديدة، تتفاعل الحرب في اليمن مع مسارات الحرب الروسية – الأوكرانية، لتدفعها في سياقها السياسي على الأقل، ربما إلى تحوّلاتٍ جديدة، ففي حين تتضاعف التحدّيات الاقتصادية جرّاء الحرب في أوكرانيا على حياة اليمنيين، فإنّ حدّة المعارك انخفضت في معظم الجبهات اليمنية، قياساً بارتفاع وتيرتها من شهر يناير/ كانون الثاني حتى منتصف الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، وكذلك انخفاض معدّل غارات الطيران السعودي في معظم الجبهات، وتركّزها في المناطق الحدودية، مقابل استئناف مقاتلي جماعة الحوثي هجماتهم على مدينة مأرب أخيراً، إذ تحاول الجماعة استغلال حالة شتات خصومها جرّاء تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية بإحراز تقدّم في المدينة الغنية بالنفط والغاز، يمكّنها من تحسين موقعها التفاوضي في المستقبل. في المقابل، ونتيجة متغيرات الوضع العالمي، أعلنت السعودية، وإن تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي، استضافة مشاورات سياسية يمنية في 19 مارس/ آذار الحالي، ودعوة خصمها، جماعة الحوثي، إلى الرياض، ويبدو أنّ السعودية، الدولة المنتجة للنفط التي تواجه ضغوطاً عديدة من حلفائها الغربيين، تحاول تدعيم مركزها وصياً إقليمياً على الأطراف اليمنية، واستباق أيّ مفاجآت في الملف اليمني قد تترتب على المشاورات التي ترعاها الأمم في المتحدة في عمّان. ومن جهة أخرى، تسعى السعودية، وفي هذا الظرف الحرج، إلى احتواء الملف السياسي اليمني، لا العسكري بالطبع أو الإنساني، خياراً استراتيجياً في هذه المرحلة، إذ أصبح الملف العسكري مستنقعاً يضغط على السعودية، نتيجة فشلها في تغيير خريطة الصراع في اليمن، فيما لا يمثل الملف الإنساني في اليمن للسعودية أولوية، أو حرجاً يستدعي التدخل، إذ تنصلت من تقديم تبرّعات لليمن في مؤتمر المانحين أخيراً، في خطوة لم تكن لتجرؤ عليها سابقاً لولا المتغيرات الدولية. ومن جهة ثالثة، فرضت الحرب الروسية – الأوكرانية على القوى الدولية مواجهة تبعاتها، ومن ثم تحوّل الحرب في اليمن، إلى الهامش، وإنْ خفض من الضغوط الدولية على السعودية لوقف الحرب، إلّا أنه ألقى عليها عبئاً عسكرياً في مواجهة جماعة الحوثي التي استمرّت في استهداف عمقها، جديدها استهداف منشآت أرامكو قبل أسابيع، فيما كان العالم يتابع تطوّرات المشهد الأوكراني، ومن ثمّ، فإن تقليم قوة الجماعة والحدّ من استهدافها أراضيها أصبحا شأناً سعودياً يجب التعامل معه وفق أدواتها المتاحة، لا اللجوء إلى حلفاء لديهم أولويات أخرى، بيد أنه، ومع صعوبة احتواء السعودية الملف اليمني، وهي الطرف الرئيس في الحرب، وسبب رئيس في تعقيداتها، فهذا أيضاً لا يعني قدرتها على تجاوز ضغوط علاقتها مع حليفها الأميركي الذي فاقمه موقفها من الحرب الروسية – الأوكرانية، ومن ثم تأثر الملف اليمني، الذي ترعاه الولايات المتحدة بصفتها فاعلاً دولياً رئيساً، بضغوط هذه العلاقة وتحولاتها.

النفط بصفته سلاحاً استراتيجياً في الحروب المفصلية، كالحرب الروسية – الأوكرانية، لا يضغط على تحالفات الحلفاء والخصوم فقط، بل يهيمن على المعادلة الدولية الحالية، ويعيد صياغتها، إذ إن حظر أميركا وأوروبا مصادر الطاقة الروسية جرّاء غزوها أوكرانيا ترتب عليه نقص إمدادات الطاقة، ومن ثم حاجة الدول الأوروبية، ومن بعدها أميركا، لإمدادات بديلة عن النفط والغاز الروسيين، بعد فشلهما في إلزام دول كبرى، كالصين وفنزويلا والهند، بتثبيت المقاطعة، بحيث أثبت أنه لا يمكن للدول الغربية إدارة العالم وفق أولوياتها، كما أن تعذّر إنجاز الاتفاق النووي – الإيراني (إلى الآن على الأقل) حال دون أن يدخل النفط الإيراني الأسواق العالمية بديلاً للنفط الروسي، ومن ثم حرم أوروبا وأميركا من خيار متاح ورخيص، ربما لتلافي أزمة عالمية، إذ تشترط روسيا، وهي عضو في الاتفاق النووي، ألّا تحرمها العقوبات الأميركية من امتيازاتها الاقتصادية من الاتفاق، فيما تحرص أميركا على تنفيذ العقوبات الاقتصادية حزمة واحدة تؤدي إلى تقييد روسيا، ومن ثم وقف حربها في أوكرانيا.
وفي هذه المعادلة، بات اللجوء إلى الحلفاء من الدول المنتجة للنفط في الخليج هو الحل الأميركي والأوروبي لزيادة إنتاج النفط وتجاوز أزمة كساد عالمي، إلا أن لهذه المعادلة أيضاً اشتراطاتها ونتائجها، فمع تمايز مواقف السعودية والإمارات من الأزمة الأوكرانية، فإنها تحاول انتهاج سياسةٍ لا تضرّ بمصالحها على المدى البعيد، بما في ذلك الملفات السياسية الإقليمية التي تهمها، وذلك بالتزامها باتفاق الدول المنتجة للنفط (أوبك بلاس)، وروسيا عضو فيها، أي الحياد في مواجهة روسيا، وإن قايضته سياسياً في حالة الإمارات التي تحفظت على قرار يدين غزو روسيا أوكرانيا في جلسة مجلس الأمن الشهر الماضي، مقابل تصويت روسيا لقرار تصنيف جماعة الحوثي جماعة إرهابية بعد هجماتها على أبوظبي. ومن جهة أخرى، فإن السعودية، أكبر الدول المنتجة للنفط، والدولة المتدخلة في اليمن، لديها، هي الأخرى، اشتراطات وإنْ لم تعلنها، لكنها تتعلق بمقاربة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الملف اليمني، والتي تتركز في دعمها في حربها في اليمن، وكذلك وقف الاشتراطات الأميركية في تقييد صفقات بيع الأسلحة للسعودية، إلى جانب إعادة تصنيف جماعة الحوثي إرهابية، بعد أن شطبتها إدارة بايدن في مطلع العالم الحالي. وعلاوة على ذلك، مخاوف سعودية من نتائج توقيع الاتفاق النووي – الإيراني الذي يعني اكتماله الإضرار بمصالحها الإقليمية، قوةً منافسةً لإيران.

ومع فشل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في انتزاعات تعهدات سعودية وإماراتية بزيادة إنتاج النفط وتخفيف الضغط على الأسواق العالمية، فإن السعودية، وإنْ تمسّكت، حتى الآن، بموقفها، لانتزاع مكاسب تهمها، فإنها لا تملك أوراقاً أخرى للتحايل على الضغوط الأميركية والأوروبية، بما في ذلك التلويح بالخيار الصيني، إذ إنها تواجه تحدّيات عديدة، فإلى جانب التبعات الاقتصادية المترتبة على الحرب الروسية – الأوكرانية، حتى وإن كانت، في الوقت الحالي، من الرابحين جرّاء ارتفاع أسعار النفط عالمياً، فإن استجابتها للمطالب الأميركية والأوروبية قد تعني دفع روسيا، التي التزمت طوال سنوات الحرب بالإجماع الدولي حيال مرجعيات الحل للأزمة اليمنية والتي تتوافق مع المصالح السعودية، إلى التورّط في الملف اليمني بشكلٍ يضرّ بمصالحها، بما في ذلك دعم جماعة الحوثي في هجماتها الصاروخية على أراضيها، وإنْ لم تستخدم هذه الورقة بعد. إضافة لذلك، وهو الأهم، إن تحول روسيا إلى عدو في المعادلة الغربية الحالية مقابل تخفيض العداء لإيران، العدو التقليدي للسعودية، يجعلها هي المعني الآن بخوض حربها، بدلاً من خوض الآخرين حروبها، إذ لدى العالم تحدّيات أكثر خطورة من مجابهة مخاوفها. وأخيراً، تفرض حاجة الدول الغربية لنفط إيران على السعودية واقعاً جديداً، أصبح الآن يمضي لصالح إيران.

صناعة الأعداء استراتيجية أميركية في إدارة العالم، وإن اقتضى تغييرهم من وقت إلى آخر. وأيضاً مقايضة معاناة الشعوب بملفات حيوية بالنسبة لها، فبعد أكثر من عشرين عاماً من اختراعها الحرب على الإرهاب الإسلامي، لم تنسحب أميركا فقط من أفغانستان، بل اعترفت بسلطة الأمر الواقع ممثلة بحركة طالبان، حيث صوّت مجلس الأمن، أخيرا، بالاعتراف بالسلطة في أفغانستان وإن لم يسمّها، مقابل مصادرة أميركا أرصدة الدولة الأفغانية لصالح مواطنيها من ضحايا “11 سبتمبر”، لتطوي، على الأقل الآن، صفحة ما تسميه الإرهاب الإسلامي، عدو أميركا والحضارة الغربية عقدين، ومن ثم تتفرّغ أميركا لخوض حربها ضد عدوٍ آخر، وإن كان عداؤها روسيا البوتينية فقط لإزاحة منافس، أكثر منه انتصاراً للشعب الأوكراني الذي يباد على يد القوات الروسية، على أن عالم ما بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وإن ما زال في حال سيولة سياسية وقيمية، فإنه عرّى سياسة أميركا تجاه حلفائها، فالنفط مقابل الحماية، وإن حكم علاقة أميركا بالسعودية عقودا، فإنّ هذه العلاقة فشلت في اختبار المصالح والتحوّلات، وإن حاولت الإدارة الأميركية مقايضة الملف اليمني لإرضاء حليفها، وذلك من خلال اتباع سياسة الجزرة والعصا، شطب جماعة الحوثي من قائمة الإرهاب مقابل توسيع فرض عقوبات على قيادات في الجماعة، وحظر الأسلحة، إلى جانب بيع صفقات أسلحة للسعودية، إلّا أن هذه السياسة لم توقف الحرب في اليمن، ولم تمنع استهداف الجماعة المنشآت السعودية. ومن ثم لن تكون مناسبة لحليفها السعودي في هذه المرحلة، على الأقل لدفعه لاستعداء روسيا. ومن جهة أخرى، إذا كانت الإدارة الأميركية ربطت الملف اليمني بالملف النووي الإيراني، وسوّقت أنّ ذلك قد يدفع إيران إلى إجبار وكيلها في اليمن، جماعة الحوثي، على الانخراط في المفاوضات السياسية، ومن ثم إنهاء الحرب في اليمن، ومن ثم، وهذا الأهم، تخفيض هجماتها على السعودية، فإنّ الملف النووي بات أكثر ارتباطاً الآن بحاجة أميركا والدول الأوروبية للنفط الإيراني، وهو ما يعني أنّ المهم في معركة أميركا هو النفط مقابل أي شيء، ما يعني احتمال شطب الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب، الجناح العسكري الذي يغذّي حروب بلدان الوكالة في المنطقة، ومنها اليمن.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى