الكيمونو والقطار الرصاصة
كتب أحمد المسلماني في “الاتحاد”:
يقول الأديب الياباني الكبير «أُوِي كنزابورو»: فيما كنتُ طفلاً.. وعدت أمي أن أفوز بجائزة نوبل في الفيزياء. وبعد مرور خمسين عاماً قلت لها: انظري يا أمي.. لقد أوفيتُ بوعدي وفزتُ بجائزة نوبل. قالت والدتي: لا.. لقد وعدتني أن تفوز بجائزة نوبل في الفيزياء لا في الأدب!
كانت والدة الأديب العالمي خفيفة الظل وتحب المزاح، لكنها أيضاً عبرت في مزاحها عن ذلك الانضباط الياباني المذهل.
في زيارتي الأولى لليابان تلقيتُ صدمة الانضباط، والحياة شبه الروبوتية، وفي زيارتي الثانية وجدت مساحات أكبر من ذلك الأداء الآلي الذي يحاول ألاّ يخرج عن الإطار المرسوم، ولا يجتهد في الصواب أو الخطأ، بل يفعل ما هو مطلوب بالضبط، من دون إهمال أو تجويد.
لكن وراء ذلك التقدم المذهل في اليابان، ثمّة معاناة لدي كثيرين من الجفاف العاطفي، وثمّة ضجر من الحياة «الفوتوشوبية».
في وثائقي قدمته مذيعة شبكة «سي إن إن» الأميركية الشهيرة «كريستيان أمانبور» تحدث يابانيون عن خريف العاطفة في بلادهم، وعن افتتاح نوادٍ تعطي الفرصة للثرثرة والابتهاج وإطلاق العنان للوجدانيات التي سحقتها العولمة.
تحدث الأديب الياباني النوبلي «أُوِي كنزابورو» عن أن الأمر يتجاوز ذلك إلى حدّ تهديد روح اليابان، من جرّاء الانجراف وراء الحضارة الغربية. يقول كنزابورو: «إن اليابان هي جزءٌ من العالم الثالث ثقافياً، وإن كانت جزءاً من العالم الأول تكنولوجياً. هي جزء من آسيا، ومن الخطأ أن يفكر المثقفون اليابانيون من خلال أوروبا وأميركا، ولا يقيمون نظرية خاصة بهم».
ثم يدعو «كنزابورو» إلى التصدّي للتغريب الثقافي الذي أضرّ بآسيوية اليابان.. فيقول:«يجب أن تقف روح اليابان وتقاليدها لمواجهة هيمنة الخارج.. يجب أن تنفتح ثقافة اليابان على الأدب الآسيوي والعالم ثالثي».
في عام 1995 نشر«كنزابورو» كتابه المهم «اليابان الغامضة وأنا». وفي هذا الكتاب يعبر الأديب الياباني عن انزعاجه من تحول اليابان إلى «بلد غامض».. فهو إذ يسعى لمواكبة الحضارة الغربية، يجد نفسه بعيداً عن ذاته، ومغترباً عن تراثه وثقافته الآسيوية.
ينتمي «كنزابورو» إلى اليسار الجديد في اليابان، وهو أبرز نجوم الثقافة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، وبحكم اليساريّة المسيطرة في داخله، اعترض على بقاء النظام الإمبراطوري، ودعا رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي لإلغائه من الدستور. ولطالما وجّه انتقادات لطفولته حين كان يسجد للإمبراطور الإله قبل أن يتغير ذلك عام 1945 بعد هزيمة اليابان في الحرب. إنه أيضاً يقف ضد الثقافة النووية.. من هيروشيما إلى فوكوشيما، وقد جمع (7) مليون توقيع لإيقافها بالتوازي مع «الحركة اللانووية» الألمانية.
ما يقوله «كنزابورو» عن أزمة الهوية في اليابان، وعن سطوة العولمة الغربية على ثقافة بلاده الآسيوية.. هو أمر موجود لدى المثقفين العرب وغيرهم، والمدهش أن ذلك موجود لدى النخبة اليابانية أيضاً.
في تقديري.. فإن كنزابورو يبالغ في مخاوفه بعض الشيء. فلقد نجحت اليابان في إحداث توازن مدهش بين الأصالة والمعاصرة، وبين التقاليد والعولمة. وما يراه الأديب النوبلي رضوخاً للهيمنة لا نراه كذلك.. بل نراه نموذجاً للتوازن بين اليابان والعالم.. أو بين آسيا وأوروبا.. الكيمونو والقطار الرصاصة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا