الكويت.. وحقوق الإنسان
كتب عبدالله بشارة في صحيفة القبس.
ستظل لائحة «حقوق الإنسان» متواجدة في كل لقاء سياسي أو اجتماعي أو تجاري أو ثقافي، سواء تم الاجتماع في إطار دولي أو إقليمي، أو في تجمّع أهلي وطني، فالملف متواجد منذ أن خلق الله الإنسان وجمّله بكل المواصفات العالية، وفي كل مكان يعيش فيه الانسان، وفي كل الأديان، في القرآن، وفي الإنجيل، وفي كل أحاديث الرسل والمبشرين، وفي كل المساجد والكنائس، فالإنسان هبة الخالق العظيم، يخرج من شرعية الاقتران، وينزل إلى حضن من أنجبته، محاطاً بقدسية الترابط بين الأبوين وطفلهما، ومحصناً برعاية ربانية، وتوجيهات تعظّم المشاعر في شبكة العلاقات الأبوية والأسرية.
وفوق كل ذلك، يعمق الخالق العظيم جوهر المساواة بين البشر، فلا تمييز بين الديانات، ولا بين الانتماءات، وشكلت هذه القيم قاعدة التعامل بين مختلف التجمعات البشرية، مع تأكيد جميع الأديان على حتمية احترامها والالتزام بمعانيها كقاعدة التعامل بين مختلف البشر.
ومع التجارب التي مرت بها البشرية، وأفرزت اجتهادات لصياغة ميثاق يعبّر عما شهدته المجتمعات من أحداث، فلا مفر فيها من صون حقوق الإنسان أينما كان موقعه، ومهما حمل من عقيدة، ومهما اختلفت ألوان اجتهاداته، كل ذلك تجسد في مبدأ المساواة، الذي عمق حق الإنسان في عقيدته وديانته، من دون أن يؤثر ذلك في حقوق الآخرين.
وفّر ميثاق حقوق الإنسان، الذي أقرته الأسرة العالمية في ديسمبر 1948، مبدأ المساواة في الحقوق والالتزام بها، كضوابط يتمسك بها كل مجتمع، وتحترمها كل دولة، وتستلهمها المنظمات العالمية في مسار نشاطاتها، وأصبح ميثاقها المرجعية الجوهرية في احترام حقوق الإنسان، وسط مشاعر البهجة الجماعية، التي شملت كل الأطراف.
وصدر الإعلان في زمن كانت فيه الدول الاستعمارية تسيطر على مناطق جغرافية واسعة في أفريقيا وآسيا ومنطقة الكاريبي، ولم تختف ظاهرة الاستعمار بسبب إيمان دول أوروبا بمبادئ الميثاق ونبل أهدافه، وإنما تحررت تلك المناطق بنضال شعوبها وثورتها نحو الحرية، وتضحياتها للاستقلال والتخلّص من المستعمر، الذي لم يعبأ بنبل المبادئ التي خرجت من جنيف عام 1948، وكانت آخر معارك الدم وغزارة التضحيات ما حققته الجزائر عام 1961، وانطلاقها كدولة مستقلة عن فرنسا، تعبيراً عن إصرار شعبها على تأكيد هويته العربية والإسلامية والإنسانية.
ولا بد من التأكيد أن انطلاق ميثاق حقوق الإنسان وفّر ديناميكية غير مسبوقة لجهد جماعي عالمي، للتضييق على المتقاعسين من المستعمرين، الذين وقعوا على الميثاق، لكنهم تباطؤوا في الانسجام مع مبادئه، مدركين أن قوى التحرر تضغط بقوة نحو نظام عالمي من دون استعمار، مستنداً إلى جبروت الدعوة نحو الحرية، التي تؤكد انتصارها في عام 1961، مع قبول عشرين دولة أفريقية مستقلة، انضمت إلى الامم المتحدة في العام نفسه، الذي شهد طلب انضمام الكويت إلى الامم المتحدة، وصادقت على دستور للحكم، يضع حقوق الإنسان في صدر مبادئه، ويحترم حريته، ويصون حقه في حرية القول والعمل.
في سبتمبر 1971، انتقلت للأمم المتحدة مندوباً دائماً للكويت، وهناك وقفت على حجم المعاناة، التي تتحملها أفريقيا وبعض المناطق من آسيا، ونظراً لثقل الملف، تشكلت من نشاطات الأمم المتحدة لجنة لتصفية الاستعمار، تتكون من دبلوماسيين، أكثرهم من أفريقيا، وتولت هذه اللجنة مطاردة المستعمرين من بريطانيا وفرنسا والبرتغال، كما شكلت الأمم المتحدة لجنة تُعنى بحقوق الإنسان، مقرها جنيف.
شعرت بأهمية عضوية لجنة حقوق الإنسان، واقترحت على وزارة الخارجية الكويتية الانضمام إلى لجنة حقوق الإنسان، لكن مع الأسف، جاء الطلب مع انتقالي من نيويورك إلى مجلس التعاون.
كان اهتمام الأمم المتحدة بحقوق الإنسان أفضل كثيراً من اهتمامات أغلب دول العالم، ولا سيما في العالم الثالث من أفريقيا وآسيا وجنوب أفريقيا، فقد تعمق موضوع حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وكذلك في معظم الدول الأعضاء، باستثناء الأقلية، وشكل الموضوع تحدياً صارخاً ومزعجاً للدول المستعمرة، التي ترحّب بميثاق حقوق الإنسان بالإعلام والكلمات، وتحاربه على أراضيها، وتلاحق مواطنيها المهتمين به، وتغلق المنافذ التي قد تتسلل منه.
ومما يزعج الحكام والمسؤولين فيها، أن ميثاق الأمم حقوق الإنسان صار صخرة صلبة في مداولات الأمم المتحدة، لكنه لم يجد الدعم الصلب من الأعضاء، وظل محروماً من الأغلبية، التي تتغنى بالكلمات فقط، وتحوّل ملف حقوق الإنسان إلى سلاح مضر لسمعة الكثيرين من الدول النامية، والحق أن الدول المتقدمة تلجأ إليه في اتهاماتها للدول النامية، وتستغله للتنديد والمحاصرة السياسية.
سيبقى موضوع حقوق الإنسان منطلقاً، يوظف كوسيلة سياسية، تعري ادعاءات الدول النامية بالالتزام بالميثاق، وتوظفه الدول المتقدمة لمطاردة، الذين ينددون بالاستعمار، ويسجنون شعوبهم عند مطالبتهم بالحرية وممارسة الحقوق، ويبقى العالم العربي، مثل الآخرين، يثني على مبادئ الميثاق، لكنه لا يطيق الالتزام بها، ويطارد من يتجاسر من أبناء شعبه في المطالبة بحقوق الإنسان في التعبير، بينما تتجمّل الكويت وبعض الآخرين بجمال مفردات الميثاق، وتؤكد التزامها جميع المبادئ التي يجسدها هذا الميثاق.
كما تنفرد الكويت بإعلاء مبدأ حقوق الإنسان في دستورها، الذي أقرّته عام 1963، وتؤكد الكويت هذا الترابط مع مبدأ حقوق الإنسان، وتعبّر عن هذه العلاقة الشيخة السفيرة جواهر إبراهيم الدعيج الصباح، التي تتولى مسؤولية ملف حقوق الإنسان في الكويت، وتتحاور مع الدول الملتزمة بكل الفصول، التي عبّر عنها ميثاق حقوق الإنسان.
ومن المهم أن تراعي السفيرة جواهر أن واجبها ليس نشر حقائق الكويت، فقط، بل تأكيد الأولوية للإنسان في حقوقه، وفي ممارسة هذه الحقوق، فالمشكلة التي يعاني منها ملف حقوق الإنسان، هي ادعاء الدول الالتزام والتغني بالمبادئ، بينما الممارسة الداخلية في الدولة لا تهدف لتحقيق هذا المبدأ، وهذا واقع ليس فقط لدى الدول العربية، وإنما في كل القارات، وفي معظم الدول المستقلة.
وهنا أود الإشارة إلى أن بعض القيادات العربية تتخوّف من السماح لأبناء شعبها بالتمتع بحرية التعبير، رغم الفوائد التي تجنيها هذه الدول، وتطرقت إلى تجربتي الشخصية في الأمم المتحدة، حيث كنت رئيساً للجنة مراقبة منع تصدير السلاح إلى جنوب أفريقيا، كان ذلك في عامي 1978–1979، وكان مصدري الأساسي في كشف المستور من أسرار تصدير السلاح إلى جنوب أفريقيا هو منظمات النفع العام، إضافة إلى الكنائس، فالدول شرقاً وغرباً تبيع ولا تحترم، وكنت أشير إلى هذه الحقائق، فكان الصمت.
كانت بعض الزعامات العربية تتخوّف من تجمعات النفع العام، خاصة إذا التزمت باستقلالها، ولم تخضع لضغط الحكومات، والخوف يتضاعف من احتمالات أن تتسلم الدعم المالي من الخارج، فمن يُرد كشف المستور من الفساد فلا بد أن يثق بنزاهة هذه التجمعات، ودورها في كشف الاختلاسات، ولذلك تتم محاصرة حرية التعبير، ويتكاثر الفساد، وترتفع أعداد الخصوم، ويلجأ الحاكم إلى المزيد من التضييق.
وهنا أجدد التأكيد بأن حقوق الإنسان هي النزاهة في السلوكيات، وفي تعبئة المجتمع لاستلهام معاني مبادئ الميثاق وإلزامية احترامها، وتأكيد الوفاء لنبل معانيها، مع الاعتزاز بمكانة الكويت الإنسانية.