«القمة غير العادية».. المسار الوضيء
كتب نجيب يماني في صحيفة عكاظ.
فرق كبير، وبون شاسع، بين عقل يفكّر بمنطق محكم، ويزن الأمور بحكمة باصرة، ويخطو نحو تحقيق أهدافه بوعي مستضيء، وضمير نقي.. وبين من يجعل فوران الخواطر، وجيشان الأعصاب، وديموجاجية الخطاب، وعصابية الطرح؛ وسائله لتحقيق غاياته، دون أن يمتلك غيرها في معرض النزال، وساحة المنافحة، وميدان القتال.
هكذا يمكن للمرء أن ينظر إلى القمة العربية الإسلامية غير العادية التي احتضنتها الرياض مؤخراً، وشهدت حضورًا مائزًا، وشكّلت صوت عقل مشتركًا، بحث بروية وحكمة عن مخرج للأزمة الأخيرة، التي فجّرتها روح المغامرة غير المنضبطة، والتقديرات غير المستوفية للنظر السليم، والقراءة البصيرة لمآلات الأمور وموازين القوى في «السابع من أكتوبر»، فكانت الحصيلة المتوقعة ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة من كارثة إنسانية، امتد أثر حريقها إلى الأراضي اللبنانية، لتنهض المملكة كعهدها بزمام المبادرة عبر هذه «القمة غير العادية»، لإعادة الأمور إلى نصابها، والمضي بالقضية الفلسطينية، عبر المسار الدبلوماسي، الذي أوشك أن يؤتى أكله، ويثمر عن تشكيل موقف عالمي مساند «لحل الدولتين»، بوصفه المخرج الوحيد المتفق عليه عالميًا من دوائر الصراع والحرب؛ إلى براح السلام والأمن، وهو عين ما أكده ولي العهد الأمين في كلمته أمام القمة بقوله: «لقد اتخذت دولتنا خطوات مهمة عبر تحركها المشترك على الصعيد الدولي لإدانة العدوان الإسرائيلي الآثم وتأكيد مركزية القضية الفلسطينية. ونجحنا في حثّ المزيد من الدول المحبة للسلام للاعتراف بدولة فلسطين. وحشدنا للاجتماع الدولي لدعم حقوق الشعب الفلسطيني الذي عبّرت عنه قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار فلسطين مؤهلة للعضوية الكاملة للأمم المتحدة. والمطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير المشروع للأراضي الفلسطينية. كما أطلقنا التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومملكة النرويج التي استضافت المملكة مؤخرًا اجتماعها الأول، وندعو بقية الدول للانضمام لهذا التحالف».
هكذا كان صوت العقل المستنير الذي قادت دفته المملكة العربية السعودية عبر اللجنة الوزارية العربية، قبل أن تقطع أحداث السابع من أكتوبر هذا المسار المبارك، وتضع المنطقة كلها في احتمالات نذر حرب إقليمية، ووضع إنساني كارثي بكل المقاييس، لتزيد المشهد تعقيدًا، وتعرقل من الخطوات المنجزة، ليبقى الحرص الآن والمسعى إلى ضرورة وقف الحرب، ومعالجة آثار الدمار الناجم عنها، والعمل على إيقاف تمددها داخل الأراضي اللبنانية، في سيناريو مكرر لما حصل في الضفة الغربية وقطاع غزة.
إن موقف المملكة العربية السعودية وقيادتها، على مر الحقب والسنوات، ظل وفيًّا للقضية الفلسطينية، معليًا لصوتها في كافة المحافل الدولية، مسخّرة لذلك كل ما تملك من حضور دولي مؤثر، ومن أعجب العجب أن تجد في مقابل ذلك نكرانًا وتزييفًا للمواقف، ورميًا بالتهم الجزاف، ممن استهوتهم روح المغامرة، ورهنوا مواقفهم للأجندات الخارجية، ولم يصيخوا السمع لصوت العقل الذي نادت به المملكة وقيادتها على مر العهود السابقة، وتجلّى بوضوح أيضًا في عهد سلمان الحزم والعزم وولي عهده، عرّاب الرؤية، فلا سبيل إلى المزايدة، ولا مجال للتخوين والتخذيل، وها هو صوت المملكة صداحًا بالموقف الواضح النبيل، حملته كلمات ولي العهد الجليات في أضاميم قوله: «.. ونؤكد أن استمرار إسرائيل في جرائمها بحق الأبرياء والإمعان في انتهاك قدسية المسجد الأقصى المبارك، والانتقاص من الدور المحوري للسلطة الوطنية الفلسطينية على كل الأراضي الفلسطينية من شأنه تقويض الجهود الهادفة لحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وإحلال السلام في المنطقة.. كما تشجب المملكة منع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من الأعمال الإغاثية في الأراضي الفلسطينية، وإعاقة عمل المنظمات الإنسانية من تقديم المساعدات الإغاثية للشعب الفلسطيني الشقيق».. أفبعد هذا القول من حجة لناعق، وصوت لمخذّل؟!
حمادى القول وصفوته إن هذه «القمة غير العادية» أظهرت حكمة المملكة وقدرتها على استنهاض عزائم الأمتين العربية والإسلامية في زمن المحن الفواتك، إيمانًا منها بأهمية العمل العربي والإسلامي المشترك لحل القضايا والأزمات التي تواجهها المنطقة والعالم، وهي بهذا الصنيع تضع المجتمع الدولي كافة أمام مسؤولياته لوقف هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة، ولجم التوحش الإسرائيلي الذي بلغ مبلغًا عظيمًا، لتنفخ الحياة في روح الجهود الدبلوماسية لتعاود اللجنة الوزارية الخماسية المكلفة من القمة العربية والإسلامية المشتركة غير العادية التواصل مع دول الاتحاد الأوروبي لتنسيق تحرك دولي لإيجاد حل سياسي للأزمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مستثمرة ما سبق وأن حققته من نجاحات في إقناع لبعض الدول الأوروبية ذات الثقل والوزن العالمي بالإعلان والاعتراف بالدولة الفلسطينية، بما يضع دولة الاحتلال الصهيوني في مواجهة مفتوحة مع العالم، وبهذا تكسب القضية الفلسطينية العادلة الرهان، وتبلغ غاياتها المنشودة، متى ما أوقف «المغامرون» حماقاتهم، وأسكت «المرجفون» صوت التخوين، وكف المرتهنون للأجندات الخارجية عن مباذل الاستسلام والانصياع لغير صوت الحق الأبلج، وعادوا إلى الحضن العربي والإسلامي الناهض لهذه القضية بما تستحقه من عزم، وتستشرفه من مآلات مبشرة بعيداً عن البطولات الزائفة والأصوات الناعقة وقد كشفت حرب غزة ولبنان زيف دعواهم وقلة عقولهم.
وليعرف الجميع أن قمة الرياض شكّلت ذروة الموقف العربي الصريح بثوابته التي نادت بها دائماً وعلى كل الأصعدة والاتجاهات.