القطار المغاربي يحتاج إلى أكثر من السياسة
كتل مختار الدبابي, في”العرب”:
الخط سيظل محدود التأثير ما لم يشمل المغرب كما كان في السابق حتى تكون حركة تسوق شاملة وذات فائدة للجميع.
بعد ثلاثين عاما من التوقف، يعود القطار الذي كان يربط تونس والجزائر والمغرب إلى العمل، وإن كان منقوصا من أحد أطراف الرحلة، أي الذهاب إلى المغرب. وأول رحلة رسمية من تونس باتجاه الجزائر بدأت قبل أسبوع في مؤشر على نجاح المساعي لعودة القطار الذي يسهل على الكثير من الناس أعباء السفر.
الملاحظة الأولى أن حماس تونس لهذه العودة هو الأكبر، وهي التي دفعت بأولى عربات قطارها ليربط بين مدن تونسية وأخرى جزائرية، ويخرج حركة السياحة البينية إلى العلن لتصبح خيارا رسميا معلنا بدلا من تحركات غير منظمة متروكة لما يقوم به الأفراد باستعمال سياراتهم الخاصة أو كراء سيارات جماعية كثيرا ما تتعرض لأعطاب ولمشاكل ديوانية.
سيجد الكثير من التونسيين، الذين يتسوقون من الجزائر، أمانا أكثر باستعمال القطار من تونس إلى الجزائر وفي طريق العودة منها. كما أن الجزائريين الذين يزورون تونس للسياحة أو التبضع يمكن أن يوفر القطار لهم حلا مريحا بالرغم من محدودية طاقته، حيث أن الرحلة لا تتجاوز 300 راكب من جملة ثلاث رحلات أسبوعية، وهو ما يعني 900 راكب، أي ما يعادل 6 – 7 رحلات طيران، وهو رقم محدود لحركة سياح ومتسوقين تقدر بأكثر من مليونين من الجانب الجزائري فقط.
بالصورة الحالية، فإن إدامة السكة وتشغيل القاطرات سيكلف أكثر من أيّ عوائد، وإن القرار سياسي لا علاقة له بالمردودية الاقتصادية لا من ناحية من أين ينطلق وأين يصل ولا بماذا يرتبط من شبكات ولا بحجم النقل للأفراد.
صحيح أن الرقم محدود قياسا مع التنقلات التي تجري بين دول أوروبية باعتماد القطار. ولكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة. لكنها خطوة منقوصة لأن القطار لا يمر إلى المغرب في رحلات قارة تفيد الجميع، وليس فقط التونسيين الذين يضربون أكثر من عصفور بحجر واحد، أي زيارة الجزائر والمغرب والتسوق من بلدين فيهما فرص كبيرة للتجارة البينية.
◙ بالصورة الحالية، إدامة السكة وتشغيل القاطرات سيكلف أكثر من أيّ عوائد، والقرار لا علاقة له بالمردودية الاقتصادية
وسيظل الخط محدود التأثير ما لم يشمل المغرب كما كان في السابق حتى تكون حركة تسوق شاملة وذات فائدة للجميع. والجزائريون سيكون مستفيدين هم أيضا من هذه الرحلة إذا علمنا أن أكثر من يزور المغرب من دول الجوار هم الجزائريون يليهم التونسيون. وفي الفترة من 2018 إلى 2022، زار حوالي 300 ألف جزائري المغرب، وهو رقم يتجاوز عدد الزوار التونسيين والموريتانيين، بحسب بيانات منظمة السياحة العالمية. وبين هؤلاء الزوار شخصيات معروفة في مجال الفن والرياضة.
وقد يكون اقتصار تنقل القطار على تونس والجزائر جزءا من مقاربة التقارب الحالي بين تونس والجزائر ومسار الاجتماعات التشاورية وسعي الجزائر لإظهار نوع من الدعم الموجه لتونس للخروج من الوضع الحرج الذي تمر به، وكذلك مناخ البرود بين الجزائر والمغرب بسبب موضوع الصحراء. لكن النظرة الاستشرافية لأيّ بلد مغاربي تجعل من دعم المشاريع الخدمية المشتركة، مثل شبكة القطارات أو الطرقات السيارة، هدفا مهما بالنسبة إليه، فهي إن لم تخدم النظام الحالي والأجيال الموجودة الآن، فهي ستخدم الأجيال القادمة وتقدم خدمة للسلطات المستقبلية في البلدان الخمسة.
المشاريع الإستراتيجية هذه من حق شعوب المنطقة سواء تحقق الاتحاد المغاربي أو لم يتحقق. وبالتوازي مع ذلك من حق كل نظام أن يكيف علاقاته كما يريد ومع من يريد شريطة ألا يمس الثوابت الخادمة لمصالح الناس ومستقبلهم.
الجزائر نجحت في بناء علاقات حدودية جيدة مع تونس من خلال التسهيلات التي تقدمها لسكان المناطق الحدودية، وهي مشاريع قديمة من فترة حكم الرئيس الجزائري الراحل عبدالعزيز بوتفليقة والرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي. والفكرة منها بناء علاقات ثقة على الحدود، وهي حركة رمزية ذكية تجعل ولاء سكان تلك المناطق للسلطات في البلدين، ويباعد بينهم وبين حركات التهريب والإرهاب التي كانت ناشطة بصفة خاصة في سلسلة الجبال الرابطة بين تونس والجزائر خلال الحرب الأهلية الجزائرية وانتشار ظاهرة الإرهاب ثم لاحقا في مرحلة ما بعد ثورة 2011 في تونس.
التساهل الجزائري مع دخول التونسيين وخروجهم، وتمكين سكان المناطق الحدودية من امتيازات وتسهيلات أسست لعلاقات شعبية قوية تعكسها المواقف التي تصدر عن الطبقة السياسية والثقافية والفنية في تونس التي تظهر امتنانا كبيرا للجزائر حتى لو لم يصل الدعم الذي تقدمه لتونس على مستوى ما تحتاجه في عهد قيس سعيد للخروج من الأزمة ودعم خياراتها الشعبية التي تميل للاعتماد على الذات ومنع الارتهان للمؤسسات المالية الخارجية.
تسعى الجزائر لتكرار التجربة الحدودية مع تونس مع موريتانيا من خلال مذكرة تفاهم تقضي بإنشاء لجنة حدودية مشتركة “تعنى بتطوير وتنسيق التعاون في مجالات الأمن والثقافة والاقتصاد ومعالجة الأزمات في المناطق الحدودية”.
◙ القطار المغاربي المتوقف عند تونس والجزائر لو يفتح طريقه نحو المغرب سيكون رسالة إيجابية تظهر رغبة مشتركة في تجاوز التوترات
كما تسعى لإنشاء منطقة حرة مشتركة مع نواكشوط لتطوير التعاون التجاري الثنائي. والفكرة مهمة لو أنها تصل إلى نتائج عملية يستفيد منها البلدان بالرغم مما يحيط بها من غموض، لأن المناطق الحرة تكون عادة في مناطق حيوية هذا من جهة ومن جهة ثانية ماذا يمكن أن يعرض فيها من منتجات عدا السلع الواردة من الخارج، المدعومة جزائريا مثلما يوجد على الحدود مع تونس.
يمكن أن تتسع دائرة بناء الثقة في المناطق الحدودية من جهة الجزائر إلى ليبيا والمغرب. وفي ظل التوتر شبه الدائم للحدود مع ليبيا، فيمكن للجزائر أن تفكر في بناء علاقات ثقة مع المناطق الحدودية المغربية، وهذا يتطلب جرأة أكبر من المسؤولين بمناقشة عروض المغرب المستمرة ودعواته إلى فتح الحدود.
إن فتح الحدود لا يعني من جانب الجزائر التخلي عن مقاربتها لموضوع الصحراء أو التنازل عن موقفها. فتح الحدود سيعني تحييد الموضوع الخلافي ومنعه من عرقلة التعاون الاقتصادي والاجتماعي والأمني مع المغرب وكسر حالة التوتر.
من الواضح أن ملف الصحراء قد خرج من دائرة ليّ الذراع واستعراض القوة وبات ملعبا للمفاوضات والتحركات الدبلوماسية خاصة بعد ما طرأ من تغيير في مواقف دول مهمة مثل الولايات المتحدة وإسبانيا وفرنسا. هذا أمر يفيد الجزائريين في فهم أن الملف طال أو قصر ينتهي إلى حل دبلوماسي، وأن الأفضل تحييده وبناء علاقات حسن جوار مع المغرب بأرضية تقوم على دعم المصالح المباشرة للناس بمن في ذلك الجزائريون الموجودون على الحدود وجمع العائلات التي أعاق غلق الحدود لمّ شملها.
القطار المغاربي المتوقف عند تونس والجزائر لو يفتح طريقه نحو المغرب سيكون رسالة إيجابية تظهر رغبة مشتركة في تجاوز التوترات الحالية. المغرب العربي لا يتحمل سوى الوحدة التي تراعي مصالح الناس.