كتب أحمد الجندي في “العربي الجديد”: إلى أين تذهب الديمقراطية الإسرائيلية؟ يحاول هذا المقال تقديم إجابة عن السؤال من خلال قراءة واقع الفساد السياسي في إسرائيل، وهو معنيٌّ، بشكل أساسي، بالفساد في المستويات العليا للسلطة، أو ما يؤثر في سياسات الدولة، ويعرّض مصالحها أو نظامها للخطر. ونظراً إلى صعوبة حصر كلّ أشكال الفساد السياسي في إسرائيل، يكتفي المقال بوضع خطوط عامة، وإعطاء أمثلة محدودة تقود، في النهاية، إلى تصور عن الإجابة. وهو ليس بصدد مقارنة حالة الفساد السياسي في إسرائيل بالحال في عالمنا العربي، فالبون شاسع. وعلى الرغم من تجنب المقارنة بقدر الإمكان، فإنّ القارئ ربما ينصرف ذهنه تلقائياً إليها، وربما يطرح السؤال: إذا كان الفساد وآثاره على هذا النحو هناك، فكيف يمكن أن يكون الأمر عندنا؟
تعرّف منظمة الشفافية الدولية فساد السلطة بأنّه استغلال المنصب العام لتحقيق مكاسب شخصية. وكان استطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية الذي أجري في ديسمبر/ كانون الأول 2020 عن مدى اعتقاد الإسرائيليين في فساد السلطة، قد كشف أنّ 65% من المستطلعين رأوا أنّ فساد القيادة السياسية في إسرائيل ينحصر ما بين 4 و5 على سلم الفساد؛ علماً أنّ 1 هي الأقل فساداً و5 الأعلى. واللافت للانتباه أنّ الغالبية العظمى ممن شاركوا في الاستطلاع لم يعاينوا بأنفسهم فساد القيادة السياسية، وهذا يعني أنّ تقييمهم اعتمد على ما ينشر في وسائل الإعلام، أو صفحات التواصل الاجتماعي.
وكان ترتيب إسرائيل في مؤشّر الفساد العالمي في المرتبة 36 من إجمالي 180 دولة قيست مؤشّرات الفساد فيها بمقياس من صفر إلى مائة؛ إذ يشير الصفر إلى الأكثر فساداً. وقد حصلت إسرائيل على 59/ 100، ولم يسبقها في الترتيب من دول المنطقة سوى دولتين، الإمارات (المرتبة 27، 67/ 100)، وقطر (31، 63/ 100)، وهذا يعني، طبقاً لمراكز الدراسات الإسرائيلية، أنّ إسرائيل لديها مشكلة حقيقية في ملف الفساد.
في كتاب أصدره المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في العام الحالي 2022 بعنوان “نظرة على الفساد الحكومي” أكد المؤلفون أنّ للفساد في إسرائيل عواقب سلبية كبيرة على المجتمع؛ إذ يخلّ بمبدأ تكافؤ الفرص، ويعمّق عدم المساواة في المجتمع، ومن ثم يؤدّي إلى فقدان الثقة في السلطة، ويمسّ بتماسك المجتمع الإسرائيلي، بل يؤدّي إلى تدهور الديمقراطية نفسها، حينها ستصبح العبارات الأكثر انتشاراً بين عامة أفراد المجتمع من قبيل “كلهم فاسدون”، “لا يمكن أن تكون سياسياً في إسرائيل من دون أن تكون فاسداً”، و”ما الذي سيتغير؟ والجميع فاسدون” وهي العبارة الأكثر خطورة، والتي تعبر عن يأس مطلق في التغيير، وربما الانصراف عن المشاركة في الحياة السياسية، بل واعتزال المجتمع نفسه.
ويتحدّث عميحاي شاي الذي كان مسؤولاً عن ملف محاربة الفساد في مكتب مراقب الدولة، من 2012 حتى 2019، عن تضرّر مؤسسات الدولة؛ خصوصاً الشرطة ومكتب مراقب الدولة نفسه، بعد الكشف عن قضايا فساد كبرى، وكيف أنّ رد الفعل السياسي ضد هذه المؤسسات كان عنيفاً، تمثل في فرض قيودٍ على عمليات الشرطة ومكتب مراقب الدولة، أو بالتدخّل أحياناً في التعيينات داخل هذه الأجهزة، وقد أدّى ذلك كله إلى إضعاف هاتين المؤسستين، كذلك فإن خضوع مكتب مراقب الدولة للكنيست قد يعرّض نشاطه في محاربة الفساد للتضييق.
في كتاب آخر بعنوان “الفساد السياسي في إسرائيل” صدر عام 2012، حاول الكاتب الإسرائيلي، دورون نافوت، رصد التغيرات التي طرأت على طبيعة الفساد السياسي في إسرائيل منذ نشأة الدولة، وقسّم الفساد السياسي في إسرائيل تبعاً لذلك إلى ثلاث مراحل: أولاها مع بداية الدولة حتى أواخر السبعينيات، وتركّز الفساد فيها على السعي إلى تقوية الحزب الحاكم (حزب المباي أو عمّال أرض إسرائيل)، وارتبط الفساد كذلك بالظواهر السلبية التي صاحبت استمرار الحزب في السلطة هذه الفترة الطويلة. امتدّت المرحلة الثانية طوال الثمانينيات والتسعينيات، وكان الفساد فيها واضحا في اكتساب قوة سياسية بطرق غير مشروعة؛ من خلال التحايل على قوانين التمويل في الانتخابات، أو طريقة توزيع الخدمات لاكتساب المؤيدين.. وهكذا. في العقد الأول الماضي، أصبح الفساد مالياً بالأساس؛ كتقديم الرشا، أو اختلاس أموال عامة، أو استخدام فواتير مكررة، أو تبييض أموال … إلخ.
ويرصد المحللون الإسرائيليون عاملاً مشتركاً، كان مدخلاً للفساد في المراحل الثلاث، مع زيادة تأثيره في العقدين الأخيرين؛ إذ لا يفصل النظام السياسي في إسرائيل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ولذلك غالبا ما يكون الوزراء من أعضاء الكنيست، فيجمعون بذلك بين السلطتين. علاوة على ذلك، فإن طريقة تكون الحكومات، ومحاولة من يكلف بتشكيلها إرضاء جميع الأحزاب المشاركة معه قد يصل بأعداد الوزراء إلى 36 وزيراً. ومعروف أنّ الحكومة كلما زاد حجمها كان ذلك دليلاً على ضعفها؛ لأنّه يعني إنفاقاً أكبر، وصعوبة تنسيق بين هذا العدد من الوزراء. إضافة إلى أنّه دليل على ضعف رئيس الحكومة الذي سوف يضطر للخضوع لضغوط الوزراء، بسبب احتياجه إليهم عند التصويت على القرارات المهمة في الكنيست، وبالتالي، تنهار أولويات الدولة.
ويضرب أهرون فوغل؛ وهو مدير سابق في وزارة المالية الإسرائيلية، أمثلة للفساد السياسي في الأعوام الأخيرة؛ فقد كان عدم إقرار الميزانية في حكومة نتنياهو/ غانتس من أبواب الفساد السياسي، لأنه سيؤدي حتماً إلى غياب أولويات الإنفاق الحكومي، ويفتح الباب أمام سوء استخدام الموارد العامة، كما أن عدم وجود سقف للموازنة يمكن أن يؤدّي إلى تمرير أي شيء في لجنة المالية بالكنيست، ويقود ذلك كله بالطبع إلى صعوبة المراقبة. ويضيف فوغل أنّ النظام السياسي في إسرائيل يجعل تعيين الوزراء نتيجة للعلاقات السياسية وطبيعة تكوين الائتلافات الحاكمة. وهنا لن يكون من السهل تعيين الوزير المناسب من حيث المؤهلات أو الخبرة التي يمتلكها، وهو من مداخل الفساد أيضاً.
لا يتوقف الأمر عند تعيين وزراء غير مناسبين فحسب، بل قد يتخطّى ذلك إلى تعيين وزراء مدانين بتهم فساد، مثلما يحدث هذه الأيام مع رئيس حزب شاس، أرييه درعي. ومن المفارقات أنّ سبعة أعضاء كنيست تابعين لهذا الحزب قد أدينوا بتهم فساد في التسعينيات، ورغم ذلك ما زال مستمراً في الحياة السياسية، والغريب أنّ من السبعة درعي نفسه، الذي صدر ضده في عام 2000 حكم بالسجن ثلاث سنوات بسبب مخالفات ضريبية وتلقي رشوة قدّرت بحوالي 165 ألف دولار بين عامي 1985 و1990 حين عمل مساعداً لوزير الداخلية، ثم وزيراً للداخلية. وينص القانون الأساسي في إسرائيل على أنّ الحكم القضائي أو السجن لا يمنع صاحبه من أن يتولّى منصباً وزارياً طالما مرّ عليه سبع سنوات. لكنّ حكماً جديداً كان قد صدر ضد درعي في يناير/ كانون الثاني الماضي بـ12 شهراً مع وقف التنفيذ، على خلفية تهم تتعلق بالفساد وخيانة الأمانة وقبول الرشوة، اضطرّته للاستقالة من عضوية الكنيست في الشهر نفسه، وهذا الحكم هو الذي يعوق توليه حقيبة وزارية طبقا للقانون الأساسي، ولأنّ حزب شاس ضمن الائتلاف الحكومي الذي تشكل أخيراً، فإنّ رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وحلفاءه الجدد، بمن فيهم أرييه درعي نفسه، كانوا حريصين على التعجّل في تعديل القانون، حتى يتمكّن درعي من أن يصبح وزيراً في الحكومة اليمينية المرتقب أن تحلف اليمين بعد أيام. ويطلق الإسرائيليون على القانون الجديد “قانون درعي” سخرية من أنه قد فُصّل خصيصاً من أجل الوزير القادم. أما الأكثر غرابة من كلّ ما سبق فهو أنّ الاتفاق الائتلافي يقضي بأن يتولّى درعي وزارتي الداخلية والصحة في النصف الأول من عمر الحكومة، ثم وزارة المالية في النصف الثاني، وكأنّ لسان حال الإسرائيليين يقول “سلّموا القط مفتاح الكرار” (الكرار مخزن الطعام).
لا يتوقّف الفساد في إسرائيل عند حدود الوزراء، بل يتعدّاها إلى رؤساء الحكومة أنفسهم؛ فسابقاً دين رئيس الوزراء إيهود أولمرت بقضايا فساد، وحالياً تلاحق نتنياهو وزوجته تهم بالفساد المالي، وتحقيقات سوف توقفها بالطبع الحصانة التي توفرها له رئاسته الحكومة. وعلى الرغم من هذه التهم، فإنّ الفساد الأكبر الذي اشتهر به نتنياهو، والذي لن يُحاكم عليه، يرتبط بالقوانين التي فُصّلت سابقاً حينما كان رئيساً للوزراء، أو التي يجري تفصيلها حالياً لإرضاء بن غفير وسموطريتش ودرعي، والتي صارت تسمّى بأسمائهم تندّراً.
الطريف هنا أنّ إسرائيل تدّعي أنّ تجربتها الديمقراطية تتوافق مع المعايير الغربية. وإذا كانت تقاليد الغرب تبقي المسؤول في وظيفته طالما لم تثبت عليه تهم فساد، أو طالما بقي فساده مستوراً، فإنّ الوضع ليس كذلك في إسرائيل، بل أصبح يشبه ما يحدث في بعض بلادنا العربية من تعيين الفاسدين في مناصب عليا، وتفصيل القوانين لأجلهم.
وإذا كان الواقع الحالي في إسرائيل يشير إلى أنّ أحزاباً قد صدر بحق قادتها أحكام بالسجن، بعدما ثبتت عليهم تهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة، مثل أرييه درعي، رئيس حزب شاس الذي حصل على ما يقرب من أربعمائة ألف صوت من أصوات الناخبين (11 مقعداً في الكنيست الحالي)، أو إلى أحزاب يُتهم قادتها بقضايا فساد؛ على نحو ما يحصل مع نتنياهو الذي حصل حزبه على ما يزيد عن مليون ومائة ألف صوت (32 مقعداً)، فإنّ هذا يعني أنّ الفساد لم يعد في القيادة السياسية فحسب، بل امتدّ ليشمل قطاعاً عريضاً من الإسرائيليين الذين ارتبطت مصالحهم، أو أيديولوجيتهم بوجود القيادة السياسية الفاسدة، والذي انعكس في اختياراتهم، وذلك أكثر خطورة من فساد القيادة السياسية وحدها. وهو ما قد يجيب عن السؤال المطروح في أول المقال.