الفراغ الرئاسي: مخاطر وسيناريوهات
كتب العميد الركن نزار عبد القادر في “اللواء”:
حددت المادة 49 من الدستور اللبناني مدة ولاية رئيس الجمهورية بست سنوات، ولا يجوز عند انتهائها اعادة انتخابه الا بعد انقضاء ست سنوات اخرى.
يستطيع رئيس البرلمان اللبناني خلال المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دعوة الاعضاء إلى جلسة لانتخاب، واذا لم يفعل، يجتمع البرلمان إلزامياً قبل عشرة ايام من انتهاء ولاية ميشال عون، ولكن في حال فشل البرلمان في انتخاب رئيس خلال هذه الفترة، فان البلاد ستدخل في فراغ رئاسي بدءاً من 31 تشرين اول/اكتوبر المقبل. (1) يمكن للمجلس النيابي خلال ما تبقى من مهلة الشهرين التي تسبق انتهاء ولاية الرئيس عون عقد عدة جلسات، إذا لم ينجح في الجلسة الاولى في تأمين اكثرية الثلثين المطلوبة لفوز احد المرشحين، وإذا عجز عن الالتئام بسبب عدم اكتمال النصاب (86 من اصل 128)، فان البلاد ستذهب حكماً إلى الفراغ الرئاسي، وبالتالي تؤول سلطات الرئيس إلى الحكومة، بحيث يوقع رئيسها والوزير المختص نيابة عن رئيس الجمهورية. (2).
في ظل الأزمة القائمة والمتمادية حول تشكيل الحكومة ازدادت المؤشرات حول حصول فراغ رئاسي، وبما يهدد باحتمالات دخول لبنان في حالة من الفوضى في ظل استمرار تردي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وذلك بالرغم من كل التحركات والدعوات التي تقوم بها بعض القوى السياسية والقيادات الدينية والمرجعيات الروحية، للبحث عن توافق حول اسم مرشح رئاسي قادر على جمع كلمة اللبنانيين على مخرج من الازمة الراهنة.
يرى عدد من المحللين والمراقبين اللبنانيين والاجانب ان البرلمان الحالي قد وجد نفسه امام استحقاقين مهمين، تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وذلك في ظل غياب وجود اكثرية نيابية بقيادة حزب الله، على غرار ما كان عليه الوضع في البرلمان السابق، الذي انتخب في عام 2018، وفق قانون انتخابي «هجين» كالذي فرضه حزب الله في حينه، وبنتيجة الانتخابات التي جرت في ايار الماضي تغيرت تركيبة المجلس، بحيث لم يعد هنالك اكثرية مطلقة لأي من التكتلات بعدما تراجعت كتلة حزب الله وحركة امل والتيار الوطني الحر من 71 إلى 60 نائباً، بينما توزع عدد المقاعد المتبقية (68 نائباً) على القوى السياسية الاخرى من المستقلين والتغييريين والتقليديين.
في ظل حالة المجلس الراهنة، يرى عدد من المراقبين ان على النواب السياديين والتغييريين والمستقلين الذين باتوا يشكلون اكثرية ان ينظموا صفوفهم، ويبذلوا كل الجهود الممكنة من اجل خلق مناخات حوارية تؤدي إلى توافقات لمواجهة متطلبات تشكيل حكومة واجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده. (3) إذا نجحت هذه التكتلات النيابية في مهمتها، والتي بدأت بجولات تكتل النواب التغييريين على الكتل الأخرى، فان ذلك سيمنع حزب الله وحلفاءه من ايصال مرشحهم إلى رئاسة الجمهورية، لكن يبدو في ظل الحواجز والمطبات التي منعت تشكيل الحكومة، لن يكون من السهل او الممكن ان يؤدي الحوار الذي يقوده النواب التغييريون إلى التوافق على اسم مرشح وفاقي للرئاسة، قادر على ان يحصد اغلبية 86 نائباً في اية جلسة تخصص لانتخاب رئيس للجمهورية.
كان رئيس الجمهورية عون قد اعلن في 26 تشرين ثاني/نوفمبر 2021 عن عزمه على رفض تسليم البلاد للفراغ عند انتهاء ولايته الرئاسية، ولكنه في الوقت نفسه وضع مواصفات الرئيس الذي يمكن ان يقبل به خليفة له، ويفيد تصريح عون برفضه التسليم للفراغ بأنه كعادته يريد ايجاد الظروف التي يمكن ان يستغلها للبقاء في قصر بعبدا، وذلك على عادته للاستفادة من الفراغ الذي استعمله للوصول إلى موقع الرئاسة من خلال تضامنه مع حزب الله وتأمين غطاء مسيحي له، ويحاول عون من خلال تصريحه الذي يزيد من احتمالات الفراغ ليجعل من نفسه او من صهره جبران باسيل بديلاً مقبولاً من اللبنانيين، هو يحاول من جديد استعادة سيناريو «تطويع المستحيل»، والذي يمكن ان يوصل جبران باسيل إلى سدة الرئاسة، مكرراً السيناريو الذي اعتمده مع حزب الله، والذي اوصله شخصياً إلى رئاسة الجمهورية. (4)
من اجل ايجاد المبررات للبقاء في بعبدا او فرض ترشيح جبران باسيل لرئاسة الجمهورية يبدو جلياً ان عرقلة عون لتشكيل حكومة تستلم سلطات الرئيس في حال حصول فراغ، تخدم مخططات عون وباسيل بحجة عدم وجود حكومة فاعلة، تناط بها مسؤوليات رئاسة الجمهورية وفق ما ينص عليه الدستور، ويستغل عون الثغرات الممكنة لصالحه او لصالح صهره من اجل استمرارية عهده، متناسياً كل الانهيارات الاقتصادية والمالية والمعيشية التي حصلت اثناء عهده، والتي لم يحصل مثلها اثناء الفراغ الرئاسي الذي حصل بعد عهدي اميل لحود وميشال سليمان.
تحرح الاجواء السائدة حول حتمية حصول فراغ رئاسي في نهاية عهد عون تساؤلات حول حصول فراغ في السلطة التنفيذية، وذلك على خلفية النزاعات المستفحلة بين القوى السياسية. سبق للبنان ان شهد فراغا في رئاسة الجمهورية عند انتهاء عهد كل من الرئيسين اميل لحود وميشال سليمان، كما شهد على الصعيد الحكومة فراغ «تصريف الأعمال» لفترات عديدة.
حصل الفراغ الرئاسي في نهاية ولاية لحود بين تشرين ثاني/نوفمبر 2007 وايار/ماية 2008 بعدما تعذر التوافق على رئيس يخلف الرئيس المنتهية ولايته، وحدث الشغور الرئاسي الأطول ما بين ايار/مايو 2014 وتشرين اول/اكتوبر 2016 عندما انتهت ولاية الرئيس ميشال سليمان، حيث انتهى بعد 29 شهراً بانتخاب ميشال عون رئيساً للبلاد.
قطع الفراغ الرئاسي في المرتين السابقتين الطريق على حصول لبنان على مجموعة من القروض والمساعدات العربية والدولية، والتي تقدر بمليارات الدولارات، فضلاً عن الاضرار التي حدثت بسبب الشلل الذي حدث في ادارات الدولة، وعلى غرار ما يحدث في عهد عون منذ تشرين اول/اكتوبر 2019 وحتى اليوم، حيث ترتفع المطالب الشعبية حول ضرورة تشكيل حكومة وانتخاب «رئيس منقذ» يمكنهما انتشال لبنان من ازمته الاقتصادية والمالية واعادة بناء مؤسسات الدولة ومواجهة الفساد. (5)
كان الرئيس سليمان قد دعا في خطاب الوداع الذي ألقاه قبل مغادرته مقر الرئاسة في نهاية عهده النواب إلى انتخاب رئيس جديد من دون ابطاء وذلك حفاظاً على استقرار مؤسسات الدولة، بعدما عجز البرلمان عن انجاز الاستحقاق الرئاسي بسبب الانقسام السياسي الحاد بين قوى 8 و14 آذار. وقال الرئيس سليمان:«انني اهيب بالمجلس النيابي والقوى الممثلة فيه اتمام الاستحقاق الرئاسي دون ابطاء وعدم تحمل مسؤولية خلو الموقع الرئاسي بصورة تتنافى مع الديمقراطية لا بل مع روح الشراكة والميثاقية الوطنية». (6)
وكان المجلس النيابي قد دُعي خمس مرات لانتخاب رئيس خلال فترة الشهرين التي سبقت انتهاء ولاية الرئيس والمحددة في الدستور، من دون ان ينجح.
وفي سياق خطاب الوداع كان الرئيس سليمان قد دعا لانسحاب حزب الله من سوريا، كما رأى بأنه قد حان الوقت لبناء استراتيجية دفاعية، كمدخل ضروري واساسي لتحقيق بناء الدولة واستعادة سيادتها على جميع اراضيها، وبالتالي تمكين الجيش من استكمال قدراته من اجل تأهيله للاضطلاع بكافة مهامه الوطنية، كقوة مسلحة وحيدة على ارض لبنان.
تدعو ازمة تشكيل الحكومة على الرغم من توالي الاجتماعات بين الرئيس ميقاتي والرئيس عون دون احراز اي تقدم ملموس بين الطرفين في التوافق على حجم الحكومة او توزيع الحقائب فيها إلى التساؤل عن مدى تأثير ذلك على مسار الاستحقاق الرئاسي؟ ويرى بعض المحللين بأن عدم تشكيل حكومة هو عنصر ضاغط على عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبأن التشكيل يحرم عون من كل الحجج التي يمكن ان يستعملها للبقاء عنوة في قصر بعبدا كمغتصب للسلطة. ويشرح الكاتب في الشؤون السياسية غسان المولى هذا الامر بقوله: «إن عدم وجود حكومة يلزم جميع الاطراف السياسية بانتخاب رئيس جمهورية. أما في حال وجود حكومة، فهذا يعني ان الأمر، يسير على ما يرام، ولا مشكلة في عدم وجود رئيس جمهورية للبنان. (7)
إن أسوأ السيناريوهات لعدم استكمال الاستحقاق الرئاسي يتمثل في ان جميع الاحزاب والكتل النيابية تعمل لتعطيل الانتخابات الرئاسية اذا لم تكن نتيجتها لصالح مرشح من صفوفها او متحالف معها. ويعج المسرح السياسي بأسماء مطروحة للرئاسة، وذلك بالرغم من عدم اعلان الكتل والاحزاب لأسماء مرشحيها، حيث تفيد كتل المسيحيين المنادين بالسيادة والتغيير بأن سمير جعجع ونعمة فرام وميشال معوض وسامي الجميل وزياد بارود هم ابرز هذه الاسماء. اما لدى جانب قوى 8 آذار او محور الممانعة فيأتي ضمن اللائحة اسماء سليمان فرنجية وجبران باسيل واميل رحمه، بينما يجري الحديث عن ترشيح قائد الجيش جوزاف عون بدعم اميركي، ولا يمكن ايضاً اغفال وجود عدد من المرشحين المستقلين.
ويجمع عدد من المحللين بأنه لا يمكن لأي تسوية ان تحصل من دون ان تتوفر لها ظروف محلية وخارجية مساعدة، اي ان انتخاب اي رئيس سيتطلب حصول توافق على الاسم من قبل الاكثرية النيابية ومن قبل الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية وايران. في وقت يبدو فيه مثل هذا التوافق بين القوى «المتخاصمة» هذه يشكل خياراً مستحيلاً، ويبقى هذا الامر غير متوفر أو ممكن في ظل الخلافات الراهنة، وابرزها التوافق حول عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي. في نفس الوقت يبقى من الممكن ان تؤثر الضغوطات الدولية على مواقف الافرقاء الداخليين اذا ما هددت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على الكتل المعرقلة لعملية انتخاب الرئيس، ويمكن ان تمثل العقوبات حالة إكراه من اجل اجبار بعض الكتل والاحزاب على تغيير مواقفها وخياراتها في انتخاب الرئيس. لكن يبقى من المرتقب ان يستمر الصراع القائم على رئاسة الجمهورية بين تيارين احدهما «سيادي» وآخر داعم لتيار «المقاومة والممانعة». صحيح ان الاستحقاق الرئاسي سيزيد من الخلافات بين الموارنة، مع إحجام جميع المرشحين من تقديم أي تصور أو خطة لإنقاذ لبنان من الانهيار الكامل.