الغرب: إشكالات أساسية في المسألة النهضوية
كتب سيف الدين عبد الفتاح في صحيفة العربي الجديد.
تستحقّ أسئلة الغرب وإشكالاته التوقّف مليّاً في الرصد والبحث، وتتعرّض هذا المقالة إلى جملة الإشكالات الأساسية التي تؤثّر في الغرب ناظراً، ومنظوراً إليه، في مسألة النهضة، تبدأ بالإشكالية الأولى التي تتعلّق بتعريف الغرب؛ ما الغرب؟… يبدو أنّ هذا السؤال يمتلك مشروعية كبيرة، وهي تأتي من التباس المفهوم، بين دلالاته الجغرافية ودلالاته الثقافية والحضارية، وهو أمر، من بعد ذلك، استدعى مسائل أخرى ترتبط بتعريف هذه الجغرافيا وهذه الثقافة ضمن هذا التصور، الذي يتعلّق بالشرق أو بعالم الجنوب أو بعالم الشمال، وبدا هذا الالتباس واضحاً، كما أكّد مقال سابق لكاتب هذه السطور؛ “مقولة الغرب ومسألة النهوض” (“العربي الجديد”، 14/6/2024).
الإشكالية الثانية أنّ للغرب أوجهاً كثيرة وأقنعة متعدّدة، ما أنتج الالتباس بشأن “ظاهرة الغرب”؛ كلّ تلك الأوجه لحضارة ارتَدَت أقنعة مُتعدّدة، فللغرب وجه جغرافي وآخر كولونيالي، ووجه ثقافي وآخر فكري وأيديولوجي، ووجه سياسي وآخر اقتصادي، وربّما تشير هذه الأوجه الكثيرة إلى تداخلات أدّت إلى استنتاجٍ رأيناه مُختزلاً في فهم النهضة الغربية، في أكثر من مقال سابق، ألا وهو “لماذا تقدّم الغرب وتخلّفنا؟”؛ وأكّدنا أنّ ظاهرة الغرب، ممثّلاً في حضارته الممتدّة وإنجازاته المتعدّدة التي لا يمكن لأحد إنكارها، خاصّة في مجال ثورات ارتبطت به في الاتصال والتقنية، ومظاهر تقدّم لا تنكر، لا تشكّل النموذج الحضاري الأمثل بذاكرته واستراتيجياته وسياساته وتوجّهاته.
كان “الغرب” تاريخياً كان مفعماً بالمشروعات الإمبراطورية، مُؤكّداً في تلك المشاريع إظهار فعل الغلبة والهيمنة
الإشكالية الثالثة فكريّة، تحاول أن تتعرّف إلى الغرب من سياقات الموجات الفكرية ضمن جملة من الإشكالات، تمثّلها مجموعة من التأليفات شكّلت تياراتٍ واتجاهات فكرية، إنّها فكرة النهايات (Ends)، وبادئها تمثلت في (Posts). وأكثر من هذا وذاك، سنجد جملة من المفاهيم صارت تُسبق بكلمة الموت (Death)، هذا يشير إلى موت مفاهيم وظواهر ترتبط بها مثل موت الإله، وموت الإنسان، وموت الأيديولوجيا… إلخ، أمّا الرابعة فأكّدت عقيدة التجاوز في الغرب من خلال كلمات مسبوقة بـ”New”، إشارة إلى الجديد الذي لا يتوقّف، وما تبشّر به بالجديد وانحيازاً له، بل وجعلت كلاسيكيات غربية كثيرة مسبوقة بالتعبير المؤذن بالجدّة، فإذا أضفنا إلى ذلك سيولة في المعاني، تشير المذاهب والعقائد إلى تعدّد وتنوع ليس لهما حدّ، إنّها “Isms”. ربّما هذه الملاحظة المرتبطة بالتيارات والمذاهب الفكرية والظواهر الإنسانية والاجتماعية، في سيولة أشار إليها زيغموند باومان، في حالات السيولة التي رصدها باقتدار في التصوّرات والتيّارات والممارسات.
ترتبط الإشكالية الرابعة بمفاهيم المفاصل والتأسيس، وتفيد بأنّ معظم التيّارات الفكرية في الغرب مسكونة بمفاهيم ثلاثة مؤثّرة وفاعلة، تشكّل حالةً حاكمةً وجاذبةً تتحكّم بالمفاهيم الأخرى كافّة، أول تلك المفاهيم الصراع، حتّى أنّ بعضهم قد وسم الغرب بأنّه “أصل الصراع”، ولعلّ العلوم الإنسانية مسكونة بهذا المفهوم الذي يتربّع على عرشها، ويتجلّى في مباحثها، فكان الصراع مقولة مُحرّكة للتاريخ وحركته. ويصاحب هذا المفهوم، الأساس، مفهومَين يتساندان مع تلك الفكرة الصراعية، أحدهما مفهوم “القوّة”، وفق المفهوم الدارويني، ضمن مقولة نظريته الشهيرة “البقاء للأصلح”. الأصلح هو الأقوى، مفهوم القوّة برفقة الصراع شكّلا ظواهر تاريخية منفصلة مثل “الحروب”، و”الظاهرة الكولونيالية”، و”ظواهر الكراهية والعنصرية”، ويُتوَّج كلّ هذا بمفهوم للمصلحة تتحكّم فيه عقلية الهيمنة والغلبة والاستئثار والاحتكار.
تتعلق الإشكالية الخامسة بالإمبراطوريات وميراثها ومشاريعها، خاصّة أنّ “الغرب”، تاريخياً، كان مفعماً بالمشروعات الإمبراطورية، مُؤكّداً في تلك المشاريع إظهار فعل الغلبة والهيمنة… هذه الثلاثية (الصراع والقوّة والمصلحة)، وفق معانيها الغربية، شكّلت ماكينة لإنتاج تلك المشاريع الإمبراطورية، بدءاً من الإمبراطورية الرومانية، وحتّى ما يسمّيه بعضهم الإمبراطورية الأميركية، مروراً بالإمبراطوريتين البرتغالية والإسبانية، والإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية (نابليون)، والإمبراطورية الألمانية، والذي تشكّل من رحم الفكرة النازيّة الوطنية والفاشيّة (ألمانيا/ إيطاليا)، إذ شكّلت تلك الأفكار، نازيّة كانت أو فاشيّة، مشروعاً إمبراطورياً أول ما مسّ، مسّ الغرب في تكوينه الحضاري والثقافي والسياسي، ثمّ يأتي عصر الإمبراطورية الأميركية، بعد حربَين عالميتَين في أوروبا (الأولى والثانية). وظلّت هذه المشاريع الإمبراطورية تداعب كلّ البلاد الأوروبية الكبرى، وحينما انتقلت مسألة حماية الحضارة الغربية من أوروبا إلى الولايات المتّحدة، وانعقدت لها القيادة الحضارية، انتقلت معها الفكرة الإمبراطورية الأميركية. ولكن، في أثواب جديدة، ومسالك متنوّعة، وفقاً لتطوّر حادث في مفاهيم “الصراع” و”القوة” و”المصلحة”.
ترتبط الإشكالية السادسة بمفاهيم الممارسة والحركة؛ الهيمنة، الغلبة، العنصرية. لعلّ هذا المثلّث المهمّ، خاصّة في عالم التجلّيات، قد اختطَّ مساراتٍ وتوسَّل أدوات عدّة في عالم التجلّيات الذي أشرنا إليه، ذلك أنّ فكرة الغلبة مسعىً للغرب، وفكرة الهيمنة هدفاً له، جلبتا حالة عنصرية واسعة، سواء في النظر الحضاري أو ضمن مسألة ازدواج المعايير، وصار ذلك ضمن التشوّهات البنيانية في المنظومة الدولية، وكذلك، في علاقة الحضارة الغربية بالحضارات والثقافات الأخرى، إنّ هذا الاستعلاء الحضاري بدا واضحاً من خلال هذه الغلبة الحضارية.
تنشغل الإشكالية السابعة بالمسألة القيمية والأخلاقية. صحيح أنّنا في مستقبل الكتابة في هذا المشروع ستكون لنا جولة حول سؤال الأخلاق، إلّا أنّ ذلك لا يمنع، ونحن نتحدّث عن إشكالات الحضارة الغربية وتعلّقها بمسألة النهضة في الغرب، من الإشارة إلى اعتناق الغرب فكرتين مهمَّتَين؛ الأولى تتعلّق بمسألة الأخلاق والقيم، والثانية تتعلّق ببناء المواقف الكلّية والمفاصل في ظلّ الرؤية الحضارية ورؤية العالم من جراء الفكرة الغربية المسكونة بالصراع، وهي “الفصل” والثنائيات المصارعة، هذا “الفصل” التعسّفي الذي عاقب الخبرة وجعلها معياراً لكلّ فكرة، ومن أكثر تلك الأمور أهمّية “فصل الأخلاق عن السياسة”، و”فصل الدين عن مجمل الحياة”، فصل يصل إلى حدّ التقسيم، وليس مُجرّد الفصل، أي فصل ما لا يمكن فصله، فصل تعسّفي واندماج قسري وإكراهي، معظم ذلك يمكن ردّه إلى تلك الطبيعة الصراعية في الفكرة الغربية.
ترتبط الإشكالية الثامنة بمفهوم المركزية الغربية واستمراريتها بأشكال مختلفة، في النطاقات المعرفية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. أمّا التاسعة من الإشكالات فترتكز على عولمة الغرب وغرب العولمة، ضمن عمليات متتابعة لتجسيد رؤية العالم، التي تحوّلت عمليات كما يقع في خاتمة الكلمات التي تلحق بها “Ization”، وفي مقدمها عمليات التنميط ضمن الفكرة العولمية (Globalization).
جاءت فكرة “أفول الغرب” ضمن اتجاهات نقدية، صدر معظمها من الغرب ومن خارجه، ناقشت موقفه من ظواهر عالمية
الإشكالية العاشرة، التي تتعلّق بـ”أفول الغرب”. جاءت هذه الفكرة ضمن اتجاهات نقدية عدّة معظمها صدر من الغرب ذاته، كما صدرت من خارجه، ناقشت موقف الغرب من ظواهر عالمية اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، وبدا هذا النقد ضمن دراسات غاية في الأهمية لم تقف عند دراسات ما بعد الكولونيالية فقط، ولكنّها أشارت إلى إزالة الكولونيالية (de colonialism)، وهو ما أكّد ظواهر عدّة في دراسات حملت تسميات عدّة، من مثل “صناعة الجوع”، و”صناعة الفقر العالمي”، و”دراسات الفوضى”، و”خرافة الندرة”، ودراسات أخرى تحدّثت عن “تدهور الغرب”، بل “موت الغرب”، ورغم أهمّية هذا الموضوع، الذي قد يحتاج إلى مقالات عدّة، لكنّنا في هذا المقام نكتفي بالإِشارة إليه جملة.
وفي الختام، تلك الإشكالات العشر في قلب التفكير بنموذج النهضة الغربي، وهي مع فرادتها قد تستعصي على المحاكاة لهذا النموذج، ولكنّها تستأهل كثيراً من النقد والمراجعة، سواء تعلّق الأمر بداخل الحضارة الغربية أو بخارجها. النهوض، في جوهره، ليس مسألة سيطرة أو هيمنة أو تحكّم أو استعلاء، ولا يتعلّق بأنّ للقيم حدوداً حضاريةً لا تعبرها، يصير معها الآخر مباحاً ومستباحاً ضمن انتقائية معايير واسعة وغلبة قاهرة. الحضارة وعمليات النهوض “عمران لا طغيان”؛ عمران للمعمورة كافّة بلا ظلم أو عدوان أو طغيان.