الغازات السامة تخنق أهالي قابس التونسية.
شهدت ولاية (محافظة) قابس التونسية اختناق 16 تلميذاً ومدرساً جراء تسرب غازات سامة خلال تشغيل وحدات في المصنع الكيماوي الذي يثير هواجس متصاعدة من تداعيات عمله على المنطقة بأسرها، خصوصاً بعد تسجيل نفوق أسماك وحيوانات أخرى جراء الغازات المسربة منه.
وحاولت جماعات حقوقية ومدافعة عن البيئة، في السنوات الفائتة، تنبيه السلطات من أن قابس تواجه شبح انهيار بيئتها، وأثمرت مساعي تلك الجماعات عن بعض المقترحات لحلحلة المعضلة ما قاد إلى اتفاق مع الحكومة لم ينفذ، حتى اللحظة، وهو أمر يستهجنه أهالي المدينة.
مستقبل المدينة على المحك
وحوادث الاختناق في قابس ليست وليدة اللحظة حيث سجلت المدينة عام 2019، حالة مماثلة ما أثار تساؤلات جدية حول ما يمكن أن تقوم به السلطات لوضع حد للمأساة البيئية التي تعرفها المنطقة، وهذه المأساة سببها المجمع الكيماوي، الذي أنشئ خلال سبعينيات القرن الماضي في منطقة متاخمة لخليج قابس، وتعمل وحدات في المجمع على تحويل الفوسفات إلى حمض فوسفوري، وهو مجمع يدعو الأهالي إلى غلقه أو إدخال تغييرات جوهرية في طريقة عمله بشكل يحد من الغازات المنبعثة منه.
واعتبر الخبير البيئي التونسي عادل الهنتاتي أن “قابس هي النموذج الوحيد في العالم التي لها واحة على البحر، وفيها مصانع تكرير الفوسفات، وهي مصانع عطلت مشاريع عملاقة مثل المحطات الاستشفائية، كما أن نشاطها الفلاحي كان قوياً إلى جانب النشاط السياحي، لكن التلوث الذي تسببت فيه مصانع تكرير الفوسفات أفسد كل هذه المشاريع ووضع مستقبل المدينة على المحك”، وتابع الهنتاتي أن “هذا التلوث كانت له تداعيات كارثية على الفلاحة، إذ جرى نوع من امتصاص المياه المجمعة، البحر أيضاً أصبح ملوثاً بشدة، وتم القضاء على الثروة السمكية، على رغم أن المنطقة تشهد أكبر عملية توالد للأسماك وغيرها من الحيوانات البحرية”.
مشهد طبيعي فسيفسائي
وتزخر المنطقة بالفعل بمشهد طبيعي فسيفسائي، إذ تضم بحراً وصحراء وجبالاً، وهي مكونات نادراً ما تجتمع في تونس، ما جعل كثيرين يراهنون، منذ سنوات، على الترويج لها كوجهة سياحية، لكن يبدو أن هذه الجهود المضنية تواجه شبح الانهيار مع تصاعد تداعيات التلوث الذي يسببه المجمع.
ووعدت الحكومات التي تولت مقاليد السلطة في البلاد بإيجاد حلول للوضع في قابس، ولكن من دون إقرار إجراءات عملية ما فاقم معاناة الناس هناك، وتبدو السلطات بين خيارين كلاهما مر، إما الحفاظ على صحة الناس وفقدان القدرة التصنيعية للمجمع الذي يوفر 57 في المئة من إنتاج تونس للحمض الفوسفوري الذي يستخدم كمانع للأكسدة في المخابز، والصناعات المعدنية، وصناعة المياه الغازية، ومواد التنظيف، والأسمدة، أو رفض الأمر والسماح للمجمع بالاستمرار في النشاط وهو السيناريو الأرجح.
وقال الهنتاتي إن “المنطقة بصدد التأخر، وحركة النمو تتراجع، والمصانع أتت بخيرات عن طريق التصنيع وبيع الأسمدة لكن تكلفتها باهظة على الثروة الحيوانية والعشب والواحة والأنشطة الزراعية والسياحة، لذلك الحل يكمن في تغيير طريقة تشغيل مصانع تكرير الفوسفات وتحسين الوضعية في ظل غياب إمكانية غلقها نهائياً، لأن الإنسان في قابس مهدد بالموت وهو يعاني من أمراض خطيرة جداً”.
قنبلة موقوتة
وتعالت، في السنوات الماضية، الأصوات المنادية بضرورة تفكيك الوحدات الصناعية الملوثة في المجمع الكيماوي في قابس، وهو أمر لم تستجب له السلطات ما أثار شداً وجذباً بينها وبين الأهالي الذين باتوا عرضة لأمراض خطيرة في مقدمها السرطان.
وإلى جانب الأمراض، تسبب المجمع في نفوق أعداد هائلة من الأسماك والحيوانات البحرية ما أثار مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى اختلال التنوع البيولوجي في خليج قابس، وقال الناشط البيئي خير الدين دبية إن “المجمع الكيماوي في قابس هو قنبلة موقوتة أخطر من مرفأ بيروت” في إشارة إلى الانفجار الذي هز المرفأ قبل سنوات، وتابع “أرباب العمل يراكمون الأرباح بينما يراكم الأهالي، الذين لا حول لهم ولا قوة، الأمراض على رغم أن قدراتهم محدودة جداً على تحمل مصاريف العلاج الباهظة”.
وترزح تونس تحت وطأة أزمة اقتصادية حادة، ويعد الفوسفات من أهم الموارد التي تراهن عليها السلطات لتعبئة مواردها المالية، على رغم تراجع إنتاجه خلال الأعوام الماضية جراء الاضطرابات في الإنتاج التي تسببت فيها احتجاجات للمطالبة بوظائف أو غير ذلك من المطالب، وبعد أن قدرت السلطات إنتاجه عام 2010 بـ 8.2 مليون طن سنوياً، فإن الفوسفات تراجع عام 2018 إلى أقل من ثلاثة ملايين طن.
وقال الخبير البيئي حمدي حشاد إن “تداعيات المجمع الكيماوي التونسي، من منظور حقوقي، تحاول غالبية الحكومات تجنب الخوض فيها، لأن لديها بالفعل تخوفاً من خسارة هذا المشروع الاقتصادي”.