العودة الحتمية للإرهاب!
كتب سمير التقي في صحيفة الشرق الأوسط.
كلما اطلعتُ على أبحاث جديدة عن الإرهاب الدولي، يترسخ اعتقادي بعودته الحتمية. لكن الوثائق التي استُولي عليها في منزل بن لادن بعد مقتله، أتاحت القيام بتشريح مخبري فريد للتجربة العملية لزعيم إرهابي دولي.
إضافةً إلى كتابات سكوت كلارك، وبيتر بيرغن، وجاكوب شابيرو وغيرها، أُتيحت لي مؤخراً فرصة أن أقرأ بمتعة كبيرة، واحداً من أجمل تلك الكتب وأدقها على الإطلاق في هذا المجال. إنه كتاب الباحثة الحصيفة نيللي لحود الذي صدر تحت عنوان «أوراق بن لادن» عن مطبعة جامعة «Yale».
لست في معرض التعليق على الكتاب، بل لعل الباحثة نيللي لحود لا تتفق مع الكثير مما سأكتب. لكن كتابها ساعدني على تأملٍ أعمق لتحول حدسي بعودة الإرهاب إلى التقدير الحتمي.
في ظل الخواء الروحي الاستراتيجي الأميركي بعد الحرب البادرة، وتحت ذريعة الحرب على الإرهاب، قامت الولايات المتحدة بعمليات وحروب نجمت عنها كوارث، ليس على دول الشرق الأوسط وحسب، بل على مصالحها بالذات. وكالعادة أعمت العنجهية في أوساط المجتمع السياسي الغربي قدرته على التنبؤ والاستباق.
لا ينطبق ذلك على الابتزاز السياسي الأميركي لدول الإقليم بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وبعده فحسب، بل يتضح من تلك الوثائق أنه بالنسبة إلى هؤلاء الإرهابيين، كانت الدولة الوطنية ذاتها في الشرق الأوسط والخليج هي العدو الأول وبخاصة المملكة العربية السعودية.
وكما توضح الوثائق، لم يكن الإرهاب العالمي بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وبعد احتلال أفغانستان، مرتبطاً مباشرةً ببن لادن إلا بخيوط واهية ورمزية. بل كان بن لادن لا يعلم إلا القليل، وموَّل قليلاً منها، ونادراً ما كان يوافق على الأهداف المحلية للمنظمات الإرهابية، بل كان ينتقدها بشدة لأنها تتخلى عن الأهداف الدولية لمشروعه لصالح أجنداتها الإقليمية. لكنَّ المنظمات الإرهابية كانت تستمر في عملها به أو من دونه. والاستنتاج الأهم هنا هو أن بن لادن كان مهماً بالنسبة لهذه المنظمات كمصدر للشرعية الروحية.
تشكل الشرعية الروحية مصدر توتر عميق داخل المنظمات الإرهابية. إذ تحتاج المنظمات الإرهابية لسرِّية شبه مطلقة، ويستحيل ضمان السرية من دون الإخلاص المطلق. وفي هذه المنظمات يستند الإخلاص والسرية بشكل جوهري إلى الشرعية المعنوية. ورغم أن هذه الشرعية يمكن أن تشتقّ من خلال التمثل بشخصية عقائدية إرهابية مثل بن لادن، فإن ذلك ليس شرطاً لازماً ومنفرداً.
بل يتبين أن «الشرعية» يمكن اشتقاقها من هدف محلي، أو شخصية محلية. بخاصة بعد الضربات المتتالية للمركز، مقابل استمرار الدوافع للإرهاب.
في حين تجد الأوساط الإرهابية في بن لادن، مصدراً روحياً عالي المكانة، فإن بركته لم تكن بالضرورة شرطاً عملياً. وحين اختفى في «طورا بورا» استوحت المنظمات الإرهابية من بن لادن، لكنها لم تتوقف لا عند محدداته الاستراتيجية ولا عند شروطه.
وليس أدل على ذلك من أن «داعش» رغم خسارته الكبيرة في العراق وسوريا، أظهر مرونة وتعقيداً، محتفظاً بوجوده من خلال الاستفادة من مصادر جديدة للشرعية المحلية.
ذلك أن تفكك الدولة وفقدان الشرعية والمظلوميات المستحكمة وتداعي القانون والدولة تسمح باشتقاق الشرعية على المستوى المحلي. وبالمقارنة مع تعقد العمليات الإرهابية تظهر وثائق بن لادن أن دقته وانكبابه على أدق التفاصيل، لم تحمه من سذاجة المقاربة ومحدودية الأفق.
الأمر الطريف أنه بعد أكثر من عقدين من عملية البرجين، تُظهر نتائج المقاربة الغربية لمكافحة الإرهاب أنها تعاني من ذات عيوب مقاربة بن لادن، سواء من حيث الانكباب المَرَضي والساذج على التفاصيل، أو غياب المقاربة الاستراتيجية لموقف الولايات المتحدة في المناطق المضطربة. وليس أوضح في هذا السياق، من التداعيات الاستراتيجية الكارثية لسياسات مكافحة الإرهاب في كلٍّ من العراق وأفغانستان على الولايات المتحدة ذاتها.
ورغم خساراته الكبيرة في العراق وسوريا، أظهر «داعش» مرونة وتكيفاً محتفظاً بوجوده بالاستفادة من مصادر جديدة للشرعية المحلية المستندة إلى الفوضى والمظلوميات المستحكمة والتهميش وتداعي القانون والدولة، إلخ… فلقد أتاح البطر الاستراتيجي الأميركي بعد الحرب الباردة، ترفاً كبيراً من التخبط والانتهاك. وكما يوضح التاريخ بجلاء الآن، كان البقاء في أفغانستان، كل هذه المدة، عبثاً استراتيجياً مكلفاً، ناهيك بعبثية جريمة احتلال العراق.
يوضح تقرير البنك الدولي، «الراصد الاقتصادي – أكتوبر (تشرين الأول) 2020)، أن الكثير من المصادر الغربية «المختصة بمكافحة الإرهاب» تتجنب أو تنفي مركزية العوامل المجتمعية والسياسية والإقليمية. إلا أن حقيقة الطابع اللامركزي للإرهاب وقدرته على اشتقاق الشرعية محلياً، من دون أي ارتباط عضوي بالمركز الإرهابي، يؤكد بوضوح قوة العوامل الموضوعية.
ليس هذا شأناً من الماضي! إذ تتضافر العوامل الموضوعية للانفجارات المجتمعية لتجعله راهناً بامتياز.
هناك أولاً، تداعي منظومة «بريتون ودز» المؤسسة للعولمة الراهنة، لتتمحور حول المراكز الاقتصادية، وظهور أقاليم جغرافية مهمشة بأسرها. ليتحول العالم من دون رجعة إلى عالم متعدد الأقطاب. ثانياً، الحقبة الجديدة من الحرب الباردة التي بفضلها، يتم تذخير جميع المظالم والصراعات المحلية لتصير حركات تمرد متفجرة.
هذا ما تعلمنا إيّاه تجارب الحرب البادرة الأولى، لكن، في حينه، كانت المقاربة الأميركية أرقى وأكثر عمقاً.
فمن منطلق مكافحة الشيوعية دعمت الولايات المتحدة تصفية النموذج التقليدي للاستعمار على أنه الحاضنة لصعود الشيوعية في العالم الثالث. فكان الإنذار الأميركي – الروسي لبريطانيا وفرنسا بعد عدوان 1956 تلاه الانسحاب البريطاني من شرق السويس في السبعينات، والاستقلال المتسارع للمستعمرات الفرنسية، إلخ.
يختمر المناخ الدولي الراهن لتبرعم الإرهاب، بصفته تمرداً عنيفاً ومتوحشاً. ليصبح الإرهاب «جهاداً بلا قيادة». وهذا ما أدركه بن لادن متأخراً، لما يوفره من مرونة تشغيلية ومناعة أمنية ومعرفة وتحالفات محلية.
لكن ثمة عوامل إضافية تستعجل المخاطر وتجعلها أكثر إلحاحاً. فحين نتحدث عن عوامل انفجار الإرهاب لا نعني المريخ. فتفكك سلاسل الإنتاج، والتغيير المناخي، والجفاف، وشح الأسمدة الزراعية وتداعي وظيفة الدولة، وموجات الهجرة وانتشار المرتزقة… كلها تربة لن ينتظر الإرهاب طويلاً حتى ينمو عليها.
فلو اتفقنا على أن هذا الفطر لا يهطل من المريخ، ندرك مستوى الاحتدام في الشرق الأوسط، بل في وسط وجنوب شرقي آسيا والقوقاز، إلخ… وندرك أن تربة الإرهاب صارت كبرميل بارود جاف. ويكفي هنا أن نتأمل تساقط الأنظمة والدول في أفريقيا على طول حزام جنوب الصحراء من الأطلسي للبحر الأحمر، خلال أسابيع.
وإذا قبلنا أن الإرهاب هو نوع من الحرب اللامتناظرة المديدة، ندرك أهمية تطور القدرات العملياتية للإرهابيين. فليس الأمر متعلقاً بالتجنيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا على المسيّرات ولا تقنيات توجيه الصواريخ المتوسطة والصغيرة، ولا على العملات الإلكترونية وساحات الجرائم الإلكترونية. بل الأخطر على الإطلاق هو الذكاء الاصطناعي والخوارزميات التي تتبرعم في الفضاء الإجرامي وتتيح بشكل متسارع إمكانات هائلة لتطوير العمليات السرية للإرهاب.
وبعد أن وظفت الدول الغربية إمكانات فلكية على مكافحة الإرهاب تراجعت وتائرها بشكل ملحوظ، ونشأت مخاطر صلبة متعلقة بالمنافسة مع روسيا والصين، ليعود شعور بالتراخي أو التأجيل تجاه الإرهاب.
مع توافر الظروف الموضوعية والموارد البشرية، يصبح كثير من المجتمعات كبرميل البارود، لتأتي إليها الدول المارقة لتوفر لها الشرارة. فكيف يشعر العالم بالأمان؟