العودة إلى ليبيا: هل تتعلم واشنطن من أخطائها

كتب علي قاسم في صحيفة العرب.
الانخراط الأميركي الحالي لا يزال محكومًا بإشارات متفرقة لا ترقى إلى مستوى إستراتيجية شاملة وإذا أرادت واشنطن أن تستعيد دورها فعليها أن تبدأ بخطوات رئيسية تُبنى عليها رؤية أوسع وأكثر تماسكًا.
تمرّ ليبيا بلحظة من الهدوء النسبي يمكن وصفها بالنادرة، وسط مشهد إقليمي متقلب وتنافس دولي متزايد على النفوذ في شمال أفريقيا. وبينما تلتقط البلاد أنفاسها بعد سنوات من الانقسام والصراع، تلوح أمام الولايات المتحدة فرصة إستراتيجية لا تتكرر كثيرًا؛ فرصة لإعادة تشكيل علاقتها بليبيا، ليس من موقع السيطرة والهيمنة، بل من موقع الشراكة المسؤولة.
منذ تدخلها العسكري عام 2011 ضمن حلف الناتو، لعبت واشنطن دورًا حاسمًا في إسقاط نظام معمر القذافي. وقد رُوّج لهذا التدخل حينها باعتباره دعمًا للديمقراطية وحماية للمدنيين. لكن ما تلاه لم يكن خطة لإعادة البناء، بل انسحاب تدريجي ترك البلاد في فراغ أمني ومؤسساتي، سرعان ما ملأته أطراف إقليمية ودولية، بعضها لا يؤمن بالديمقراطية ولا بالاستقرار.
بلغ هذا الانكفاء الأميركي ذروته في سبتمبر 2012، حين قُتل السفير الأميركي كريس ستيفنز وثلاثة من موظفي القنصلية في هجوم على بنغازي. شكل ذلك الحدث صدمة داخلية في واشنطن، لكنه أيضًا كان رسالة واضحة لليبيين: أن الحليف الذي وعد بالدعم، غادر دون أن يُكمل المهمة. ومنذ ذلك الحين، تبنّت الولايات المتحدة مقاربة حذرة، اقتصرت على الاتصالات غير المباشرة والمشاركة المحدودة في جهود الوساطة الدولية، ما عزز الانطباع بأن واشنطن تخلّت عن دورها كضامن لمرحلة انتقالية آمنة.
لكن اليوم، ومع تصاعد الحضور الروسي، وتنامي التدخلات الإقليمية، واحتدام التنافس على موارد ليبيا وموقعها الجيوسياسي، لم يعد في الإمكان تجاهل هذا الملف. كما تشير مورين فاريل، وهي زميلة أولى غير مقيمة في مركز سكوكروفت للإستراتيجية والأمن، في تقريرها للمجلس الأطلسي، فإن الانخراط الأميركي الحالي لا يزال محكومًا بإشارات متفرقة، لا ترقى إلى مستوى إستراتيجية شاملة. وإذا أرادت واشنطن أن تستعيد دورها، فعليها أن تبدأ بأربع خطوات رئيسية، تُبنى عليها رؤية أوسع وأكثر تماسكًا.
الخطوة الأولى تبدأ من السياسة. فلا يمكن للولايات المتحدة أن تظل حاضرة عبر التصريحات فقط. والمطلوب تعيين سفير دائم وإعادة فتح السفارة بشكل كامل. وهذه ليست خطوة إجرائية، بل رسالة سياسية تقول إن واشنطن عادت، لا لتراقب، بل لتشارك. فالتواصل المباشر مع جميع الأطراف الليبية، شرقًا وغربًا، هو أساس لإعادة بناء الثقة، وشرط ضروري لتأسيس توافقات وطنية تقود إلى انتخابات شرعية ومقبولة.
الخطوة الثانية هي الأمن. فليبيا تعاني من هشاشة واضحة بسبب انتشار الجماعات المسلحة، وتفكك المؤسسات، والتدخلات الأجنبية. وهنا، يمكن للدعم الأميركي أن يلعب دورًا محوريًا في تعزيز قدرات مكافحة الإرهاب، وضبط الحدود، ونزع سلاح المقاتلين وإعادة دمجهم، مع الحفاظ على حيادية تامة وعدم الانحياز لأيّ طرف على حساب آخر. فالمقاربة الأمنية الناجحة يجب أن ترتكز على الكفاءة والحياد، لا على إعادة إنتاج الانقسام.
الخطوة الثالثة هي الاقتصاد. فرغم ثروات ليبيا النفطية، يعاني المواطن من غياب الخدمات، وسوء إدارة الموارد، وغياب الشفافية. ودعم مشاريع تنموية ملموسة، وتشجيع الاستثمار الأميركي في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، وتعزيز الحوكمة الرشيدة، ليست رفاهية، بل شرط أساسي لتحقيق انتقال سياسي فعلي. فعندما يلمس المواطن الليبي تحسنًا في حياته اليومية، سيكون أكثر استعدادًا لدعم المسار السياسي والمشاركة في بناء دولة مستقرة.
الخطوة الرابعة هي مواجهة التدخلات الخارجية. فروسيا ليست وحدها من يسعى لاستغلال الفراغ، بل أيضًا بعض القوى الإقليمية التي تتطلع إلى تعزيز نفوذها على حساب السيادة الليبية. وهنا، يمكن لواشنطن أن تقود تحالفًا دوليًا يدعم استقلال القرار الليبي، ويقدّم بدائل عملية للتعاون، تحل محل النماذج القائمة على الهيمنة.
لكن هذه الخطوات، مهما بدت واضحة، لا تكفي وحدها. فليبيا ليست مجرد ملف في دفتر السياسة الخارجية، بل بلد له ذاكرة وله جراح. والعودة الأميركية يجب أن تُبنى على شراكة حقيقية، تراعي السيادة الليبية، وتضع احتياجات الشعب الليبي في صميم الحسابات. ولا يكفي تعيين شخصيات غير تقليدية في أدوار دبلوماسية خاصة، فالمؤسسات القوية والسياسات المتماسكة هي التي تصنع الفرق، لا الوساطات الرمزية.
الولايات المتحدة اليوم أمام لحظة مراجعة حقيقية. والإرث السلبي لتدخل غير مكتمل يتقاطع مع واقع جيوسياسي جديد، يُحتّم العودة إلى ليبيا، ليس فقط لحماية المصالح، بل لاستعادة الصدقية في ملفات التحول الديمقراطي والاستقرار الإقليمي. وهذه العودة يجب أن تكون مدروسة، واقعية، ومسؤولة. فالنافذة الليبية قد لا تبقى مفتوحة طويلًا، وإذا لم تتحرك واشنطن الآن، فإن ليبيا قد تتحول من فرصة إلى أزمة، ومن شريك محتمل إلى ساحة اضطراب دائم.
والشرق الأوسط، الذي لا ينسى، سيُسجل من حضر، ومن غاب، ومن وعد، ثم تراجع.