العودة إلى روح اتفاق الصخيرات تجنب ليبيا سيناريوهات الحرب
كتب البراق شادي عبدالسلام, في “العرب”:
اتفاق الصخيرات الذي تم التوقيع عليه في المغرب قبل تسع سنوات يُعد مرجعا سياسيا ويمنح آفاقا سياسية للأطراف الليبية وللمجتمع الدولي في كيفية التعامل مع الأزمة السياسية في ليبيا.
كلمة ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، في الجلسة الافتتاحية للاجتماعات التشاورية بين أعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة التي احتضنتها مدينة بوزنيقة بالمغرب، تعبر عن موقف دبلوماسي متقدم تطرحه المملكة المغربية كقوة إقليمية في المنطقة، وترجمة عملية للرؤية الدبلوماسية الملكية التي تنطلق من مبدأ واقعي ومنطقي بعيدا عن الشعارات والمزايدات والتصريحات غير المسؤولة. هي رسالة قوية لكل من يريد العبث في الملف الليبي واستغلال الأزمة الليبية لتحقيق طموحات إقليمية أو التسيد على مقدرات شعبها وثرواته بفرض خطوط حمراء أو فرض وصاية على قراراتها. فالمملكة المغربية، من خلال تصريح وزير الخارجية، تؤكد إيمانها الشديد بعبقرية الإنسان الليبي وقدرته على التوصل إلى حل سياسي ينهي الصراع الحالي في ليبيا في إطار ليبي وبقرارات ليبية صرفة. والمغرب له ثقة كاملة في مؤسسات الدولة الليبية على تدبير المرحلة وإدارة أزمات البلاد.
الاجتماعات التشاورية بين أعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في بوزنيقة تعقد بعد لقاءات مصر وتونس في ظل تحديات جيوسياسية دولية وقارية وإقليمية معقدة تهدف إلى بناء أسس حوار بين مختلف الفرقاء لتجاوز الأزمة وإعادة إطلاق عملية الاستقرار التي توقفت منذ أشهر في البلاد. وهنا، فتصريح وزير الخارجية يذكر بسياسة المغرب الدبلوماسية المتميزة بالشفافية والوضوح والواقعية، ويعبّر عن موقف حكيم برؤية إقليمية متعددة الأبعاد ترتكز على احترام الوحدة الترابية لجيرانها وتؤمن بدور المملكة المحوري في حفظ السلام والأمن الإقليمي وفق الشرعية الدولية ومقررات الأمم المتحدة. ناصر بوريطة ذكّر بثوابت المملكة المغربية ومقاربتها لحل الأزمة الليبية بإيجاز، لكن من خلال تحليل كلمته نخلص إلى أربعة محاور أساسية تحدد الرؤية المغربية وطبيعة تحركاتها إزاء هذا الملف الإقليمي:
◄ العلاقات المغربية – الليبية ومختلف الأطراف تؤكد على أن محور الرباط – طرابلس يؤسس بهدوء مجال اشتغاله في إطار الشرعية الدولية ومخرجات اتفاقات الصخيرات
أولا: المملكة المغربية تؤمن بوحدة ليبيا واستقلالها وسيادتها الوطنية مع حل يحترم سيادة المؤسسات الليبية على كامل التراب الليبي، وتراهن على قدرة الفرقاء الليبيين على ابتداع آليات وميكانيزمات تساعد على التوصل إلى حلول سياسية تنهي الصراع الحالي في ليبيا، ولها ثقة كبيرة بقدرة المؤسسات الليبية على إدارة وتدبير أزمات البلاد بعيدا عن الوصاية الأجنبية.
ثانيا: المملكة المغربية ترفض كل أشكال التدخل العسكري في ليبيا، حيث تشكل مثل هذه التدخلات بيئة خصبة لتكاثر التنظيمات المتطرفة والإرهابية، وتساهم في ترسيخ التشرذم السياسي والاستقطاب الطائفي والقبلي، مما يشكل تهديدا للأمن الإقليمي والقاري والعالمي، حيث تستغل الجماعات الإرهابية والتنظيمات الإجرامية العابرة للحدود الدول التي تعاني من فشل أمني مزمن على توطين أنشطتها كالاتجار في البشر والإرهاب والتهريب بكل أشكاله. فالمغرب في إطار دعمه للمسار السياسي يرفض تحول ليبيا إلى ساحة للتجاذبات السياسية أو التدافع الجيوسياسي أو إلى بؤرة أمنية تهدد الاستقرار العالمي والقاري والإقليمي.
ثالثا: تؤكد المملكة المغربية على أهمية الدور المحوري الذي تلعبه الأمم المتحدة في دعم الاستقرار وحل الأزمة الليبية. فالأمم المتحدة تعتبر المظلة الوحيدة القادرة على توفير الاستمرارية والقوة والدعم الدولي اللازمين لتحقيق حل مستدام. فتوافق جميع الأطراف الليبية الفاعلة، سواء على الصعيد الداخلي أو الدولي، حول الدور الأممي يعكس الثقة بقدرة الأمم المتحدة على إدارة هذه التحديات. كما أن رغبة الأطراف الليبية في الاستفادة من الخبرات الدولية والمعرفة السياسية، بالإضافة إلى القدرات التفاوضية للأمم المتحدة، تعزز من فرص نجاح أيّ مسار سياسي بفضل وجود مساحات حيادية كافية تسمح للأمم المتحدة وأجهزتها بالتحرك بفعالية بين القوى الكبرى المتنازعة، ممّا يسهم في خلق بيئة ملائمة للحوار والتفاوض. وبالتالي، فالتعاون الدولي والمحلي ضروري لتجاوز العقبات وتحقيق الاستقرار في ليبيا.
◄ المملكة المغربية تؤمن بوحدة ليبيا واستقلالها وسيادتها الوطنية مع حل يحترم سيادة المؤسسات الليبية على كامل التراب الليبي
رابعا: الشرعية وتدبير المرحلة الانتقالية، حيث أكدت المملكة المغربية في أكثر من مناسبة أن تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية هو السبيل الوحيد لتثبيت الشرعية، حيث ستكون للشعب الليبي الكلمة العليا في اختيار من سيمثله وسيقوم بتدبير شؤونه والعبور بليبيا إلى منطقة الأمان. فالشعب الليبي قادر على التغلب على تحديات حقيقية تواجه “معضلة الانتخابات” كالتسلسل الانتخابي المختلف عليه بين استفتاء على الدستور وانتخابات برلمانية ورئاسية، ومسألة القانون الانتخابي وتقطيع الدوائر الانتخابية وما يرافقها من إشكالات قانونية ودستورية وترابية، والمسألة الأمنية. فتأمين الاقتراع الدستوري في كامل التراب الليبي يتطلب جهودا أمنية كبرى لن تتحقق إلا بتوافق بين كل الفرقاء الليبيين على السير قدما في المسار السياسي. وفيما يخص تدبير المرحلة الانتقالية، فإن المغرب يرى في حكومة الوحدة الوطنية أو مجلس النواب أو المجلس الأعلى للدولة كمؤسسات مهمتها المرحلية الأساسية هي التوصل إلى قاعدة دستورية واضحة المعالم لإجراء انتخابات متوافق عليها ووضع خارطة طريق توافقية لاستكمال كل الإجراءات اللازمة لإتمام العملية الانتخابية، سواء التي تتعلق بالأسس والقوانين أو المتعلقة بالإجراءات التنفيذية وتوحيد المؤسسات التي ستنهي الجدل حول الشرعية.
هي أربع محددات تؤطر “الحياد الفاعل” المغربي في الملف الليبي، حيث أن المملكة المغربية من خلال احتضانها لهكذا لقاءات تؤكد على الموقف الثابت والواضح للمملكة المغربية من كل الفرقاء الليبيين، وبتعليمات من العاهل المغربي الملك محمد السادس، لمساعدة الليبيين على إيجاد حل ليبي – ليبي للأزمة بعيدا عن التدخلات الأجنبية. وعلى هذا الأساس احتضن المغرب اجتماعات الصخيرات الماراثونية وصولا إلى الاجتماعات التشاورية في بوزنيقة، حيث أكد ناصر بوريطة على أن “اتفاق الصخيرات، الذي تم التوقيع عليه في المغرب قبل تسع سنوات، يُعدّ مرجعا سياسيا ويمنح آفاقا سياسية للأطراف الليبية وللمجتمع الدولي في كيفية التعامل مع الأزمة السياسية في ليبيا.” ومن هذا المنطلق، فالمغرب يعتبر من بين أهم الدول الفاعلة في الملف التي تحظى باحترام وثقة كل الفرقاء الليبيين، خاصة بعد انعقاد سلسلة مؤتمرات الصخيرات ومخرجاتها التي تعتبر مرجعا وأرضية مهمة لأيّ حل سياسي يتوصل إليه الليبيون لإنهاء النزاع المسلح وإعادة بناء الدولة الليبية. وتكرّس مشاركة المملكة المغربية الفعالة في جميع الجهود الهادفة للخروج من المأزق الحالي وتفادي الانزلاق نحو مواجهات عسكرية جديدة.
منذ بداية الأزمة الليبية في 17 فبراير 2011، تحولت الأراضي الليبية إلى ساحة مفتوحة لتصارع المصالح والتجاذبات السياسية وصراع المحاور وحروب الوكالة بين كل اللاعبين الإقليميين والدوليين، مما جعل البلاد تدخل في متاهة حرب أهلية مدمرة بين مختلف الأطراف الليبية بدعم وتوجيه من قوى إقليمية. فالموقف المغربي يعتبر جزءا من العقيدة الدبلوماسية المغربية على مر التاريخ الداعمة لحق الشعوب في السيادة والسلام والأمن والاستقرار، ومكافحة التطرف ومحاربته كيفما كان نوعه أو شكله. هذه المواقف المغربية الرصينة الداعمة لحق الشعب الليبي في تقرير مصيره وإدارة مقدراته تثير حفيظة مجموعة من القوى العالمية والإقليمية التي تنظر إلى ليبيا بمنطق استعماري بائد.
◄ المملكة المغربية أكدت في أكثر من مناسبة أن تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية هو السبيل الوحيد لتثبيت الشرعية حيث ستكون للشعب الليبي الكلمة العليا في اختيار من يمثله ويقوم بتدبير شؤونه
ليبيا اليوم مقبلة على رهانات كبيرة وفق مسارات سياسية وأمنية واقتصادية متوازية ستحدد مستقبلها القريب. فعلى مستوى الرهان السياسي، يظل تنظيم انتخابات عامة برلمانية ورئاسية يقدم سلطة تمتلك مشروعية سياسية تعمل على تطوير عمل مؤسسات الدولة، فضلا عن إطلاق مصالحة وطنية شاملة، والالتزام بالوسائل الديمقراطية في إدارة التنافس السياسي، ورفض اللجوء للعنف، والقبول بمبدأ التداول السلمي للسلطة، والالتزام بقواعد النزاهة والشفافية في الانتخابات، والإقرار بنتائجها. وعلى مستوى الرهان الأمني، يتمثل بوقف نهائي لإطلاق النار وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية وبسط السيادة الوطنية على كامل الأراضي الليبية وتوحيد الجيش الليبي والمؤسسات الأمنية، وتوفير الأمن للمواطنين وإنهاء حالة النزاعات المسلحة وتوحيد مؤسسات الدولة وتحرير القرار السيادي الوطني.
والرهان الاقتصادي يتمحور حول تأهيل البنية الأساسية وتمويل مشروعاتها لتحقيق حالة اليقين الاقتصادي لكي يساهم بدوره في إعادة الإعمار، وبالتالي إحلال تكافؤ الفرص في إمكانية الحصول على النقد الأجنبي وحماية العملة المحلية من الانهيار والاستفادة من ارتفاع المواد النفطية في الأسواق العالمية. وهو ما تؤكد عليه المملكة المغربية على لسان ناصر بوريطة في معرض كلامه قائلا “الليبيون في حاجة إلى حكومة وحدة وطنية للتجاوب مع تطلعاتهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتحضير لانتخابات ذات مصداقية. كما أن المجتمع الدولي هو الآخر في حاجة إلى هذه الحكومة لمواكبة الإرادة الليبية على المستويين الداخلي والخارجي.”
في وسط هذه الرهانات والتحديات والمسارات الكبرى، فإن العلاقات المغربية – الليبية ومختلف الأطراف تؤكد على أن محور الرباط – طرابلس يؤسس بهدوء مجال اشتغاله في إطار الشرعية الدولية ومخرجات اتفاقات الصخيرات ومسار الثقة بمواقف الدولة المغربية البعيدة كل البعد عن المقاربات الانتهازية لبعض الدوائر الإقليمية حول بترول ليبيا وغازها وكعكة إعادة إعمار ليبيا. حيث يظل استقرار ليبيا الهدف الوحيد الذي تتمحور حوله السياسة المغربية إزاء ليبيا، والغاية الأسمى التي تعمل على تحقيقها الدبلوماسية المغربية تجسيدا لما يربط الشعب المغربي والشعب الليبي من أواصر الأخوة المتينة والتضامن الوثيق ومن رصيد تاريخي وحضاري مشترك.