رأي

العودة إلى تفاهة الشر

كتب مروان الغفوري, في “الجزيرة” :

تواصل المؤسّسات الألمانيّة حربها العشوائية تجاه كل ما يشير إلى فلسطين، يطلقُ على تلك الحرب “مكافحة معاداة السامية”. تعتقد الكاتبة الألمانيّة شارلوته فيدامان، في مقالة لها على موقع “قنطرة”، أنّه “في معظم الحالات لا يكون سبب إلغاء المحاضرات أو ندوات الأساتذة الزائرين، أو حفلات توزيع الجوائز، هو أنّ المسؤولين الألمان عن كل واحدة من تلك الفعاليات، يعتقدون أنه يجب ألا يُسمح لمعاداة السامية بالتعبير عن نفسها في ألمانيا، بل لأنّهم يخشون من أن يُتّهموا هم أنفسهم بذلك.

لهذا فهم يغسلون أيديهم من البداية تبرئة لأنفسهم على حساب الآخرين. لقد تحوّل اعترافهم بالذنب التاريخي إلى وثيقة تأمين: أنا أشهد على طهارتي عن طريق التنديد بالآخرين”. شارلوته فيدامان تنتمي إلى نخبة محدودة من المثقفين الألمان الذين وقفوا في وجه التيار.

نحوًا من هذا دوَّنت حنّا آرندت في عملها الأشهر: “تفاهة الشر” سنة 1963، عن المواطن البيروقراطي، المحايد، الذي يزيح الأغيار عن الطريق؛ تملّقًا للدولة، أو تلبيةً لرغائبها. يفعل ذلك دون سابق من خِبرة أو أيديولوجيا.

تبدو تفاهة المشهد الثقافي على النحو الذي وصفته آرندت في ستينيات القرن الماضي، فالفاعل أو المقوّض أو المجرم يقدم على الفعل لأجل لقمة العيش، وربما رغبة فيما هو أعلى من لقمة العيش قليلًا، بلا مرجعية أخلاقية أو قيمية

أنجزت آرندت عملها “تفاهة الشر” بعد عامين من محاكمة أدولف آيخمان، أحد أبرز مهندسي الهولوكوست، وكانت قد شهدت الوقائع في القدس بنفسها. لاحظت آرندت، كما سائر العالم، أن آيخمان لم يبدِ أيَّ ندم على أفعاله، كما لم تُلاحظ عليه أي دوافع عدوانية أو إجرامية بخصوص ضحاياه. كان فقط “تُرسًا صغيرًا في آلة قتل لا يملك حيالها أي تأثير”، كما حاجج محاموه.

قتل آيخمان ضحاياه على نحو محايد، دوافعه بيروقراطية تافهة؛ كأن يحتفظ بمنصبه أو ينال ترقية مهنية. الجريمة الكبرى، أو الشر المطلق، نفّذه فاعلون لا يكنّون أية ضغينة لضحاياهم، وليسوا معنيين بالأيديولوجيا التي تضبط إيقاع آلة القتل، أقدموا على أفعالهم المروّعة وهم راضون عن أنفسهم، حتى إنّ آيخمان أحال إلى إيمانويل كانط في دفاعه عن نفسِه.

الشيء نفسه يجري الآن، كما تلاحظ فيدامان. فالرؤساء الذين نسفوا الحياة الثقافية والأكاديمية برمّتها؛ خوفًا من أن تتسع للصوت الفلسطيني، إنما فعلوا ذلك كتروس صغيرة في آلة كبرى، لا يملكون حيالها تأثيرًا. وهم يقدمون على الفعل لا يبدو على ملامحهم ما يؤكد أن فلسفة ما تدفعهم لذلك، لا انتصارًا للصهيونية ولا معاداة للفلسطينية. لذا فإن حججهم التي تنقلها وسائل الإعلام تبدو ساذجة وفارغة المعنى، كأن يصنف عمدة برلين “كراهية إسرائيل” في خانة الجريمة الجنائية.

تتحكم البيروقراطية بالحياة الألمانية وتهيمن عليها. سبق لـ”حنّا آرندت” أن وصفت البيروقراطية بالـ “شمولية بلا أيديولوجيا”. ما إن تدور الماكينة حتى يصبح من الصعب إيقافها، وبمقدور حفنة من الموظفين الرفيعين تغذية تلك العجلة العملاقة بخوارزمية سياسية معينة، وستهيمن على الحياة العامة. تمتاز هذه الشمولية البيروقراطية بقدرتها الفائقة على فرض إرادتها خلال وقت قصير. فلم تمضِ سوى أيام معدودة، من اختلاف برلين مع موسكو حول أوكرانيا، حتى جرّم قطاع الثقافة الألماني كل ما هو ثقافي روسي، وصولًا إلى الموسيقى.

يرفع القانون الأساسي الألماني حرية التعبير إلى مستوى الثوابت الوطنية التي لا ينبغي المساس بها. وبرغم ذلك فإن النظام يملك القدرة على المساس بها دون أن يخشى من عواقب أعماله. فالمدونة القانونية الألمانيّة تبلغ من التعقيد حد أنه ما من مواطن لديه من المعرفة القانونية ما يكفي.

تأخذ البيروقراطية الألمانيّة شكل سحابة عملاقة، لا مفاصل ولا ضفاف لها. حين تُغذَّى السحابة بدالّة سياسية موجّهة، فإنها ستواصل الدوران على نحو لا نهائي، ولا يمكن إيقافها. سحابة شمولية، تشبه آلة القتل التي ميّزت الحرب العالمية الثانية، يلتحق بها الموظفون لأسباب تفاهة. كل محاولة للاحتجاج، أو حتى التساؤل، تعدّ خروجًا عن الإجماع الوطني. النقاش العام في ألمانيا يأخذ، في الأغلب، صفة الإجماع.

ليس بمقدور أحد مواجهة الشمولية الحديثة، فيما لو جرى تغذيتها بقيم ولوغاريتمات سياسية واضحة وبسيطة. مؤخرًا، مطلع فبراير/شباط الماضي، قدّمت وزيرة الثقافة الألمانية كلوديا روت مشروعها لمعالجة الماضي، أطلقت عليه اسم: “إطار مفاهيمي لثقافة التذكّر”. يمتد المشروع على أكثر من 40 صفحة، ويحاول أن يخرج بثقافة التذكر الألمانية من أسْر الهولوكوست والحقبة الشيوعية في ألمانيا الشرقية إلى مديات أوسع.

يقترح المشروع مجالات ثلاثة أخرى للتذكّر: الظاهرة الاستعمارية، ذاكرة المهاجرين في ألمانيا، وتاريخ الديمقراطية وتحولاتها. اقترحت المسوّدة إفساح المجال لتاريخ الاستعمار الأوروبي والألماني، وتعميق ثقافة التذكر حيال الجرائم الألمانية في أفريقيا. من ذلك التذكير بجريمة الإبادة البشرية التي ارتكبها الألمان في ناميبيا مطلع القرن الماضي.

الجروح التي حملها المهاجرون، ممن استقر بهم المطاف في ألمانيا، ستوضع بحسب المسوّدة في الاعتبار، ستتسع لها الذاكرة الثقافية المقروءة والمادية. ذكّرت المسوّدة بمئات المهاجرين ممن لقوا حتفهم على أيدي متطرفين ألمان في عموم البلاد خلال العقود الماضية. شيء واحد ربما لم تأخذه المسودة في الحسبان، وهو احتمال فشلها.

تهيمن على الأجواء الألمانية عقيدة واحدة اختزلت التاريخ في الهولوكوست، وبذلت حوله، وفيه، الذاكرة والثقافة. لا يملك أحد القدرة على المساس بتلك العقيدة الشمولية، أو مطالبتها بإفساح المجال لسواها. ما يردّده الساسة الألمان عن العبرة التي تعلموها من الماضي، في محاولة لشرح مواقف بلادهم، هو لغو لا معنى له. فما من أحد قادر على أن يقول شيئًا مختلفًا، ولا تصدر مواقفهم عن سياسيين يتمتعون بحرية الإرادة. تذهب شارلوته فيدامان إلى القول؛ إن أولئك الذين يريدون أن يصيروا جزءًا من منظومة الحكم يتجهون إلى ترديد المواقف والمقولات التي يتبنّاها رجال النظام، فذلك هو الطريق الوظيفيّ الآمن.

أثناء نقاش تلفزيوني مباشر قدمت ديبوره فيلدمان، اليهودية الألمانية، مرافعة أخلاقية حشرت من خلالها السيد هابك، نائب المستشار، في الركن الضيق. وعندما لم يجد شيئًا قال مستسلمًا: “مواقفك الأخلاقية تثير الإعجاب، ولا يمكنني كسياسي أن أشاركك إياها. كما لا تسمح لي مسؤوليتنا تجاه الهولوكوست باتخاذ مثل هذه المواقف”. علقت فيلدمان على مداخلته، في مقالة نشرتها على الغارديان، متهكمة: “كما لو أن الهولوكوست أعفت السياسي الألماني من كل التزام أخلاقي”. على هذا المنوال الساخر، ولا يمكن معالجة ما يقوله السياسي الألماني سوى بالسخرية العميقة، كتبت شارلوته فيدامان: “كأنهم يريدون أن يقولوا لنا بما أننا كنا أشرارًا في الماضي، فإننا الآن الأخيار الوحيدون”.

أثارت مسوّدة وزارة الثقافة غضبًا واسعًا داخل الحقل الثقافي والإعلامي. عدد كبير من المؤسسات المتخصصة في “الذاكرة” أرسلت خطابًا جماعيًا إلى وزيرة الثقافة يدين، بلغة رفيعة، المشروع. تسابق الكتّاب والأكاديميون إلى اكتشاف خطورة المشروع على الذاكرة الألمانية. بدا الجميع فاعلين داخل آلة واحدة، غير قادرين على الخروج عنها قِيد أنملة. حوّلت الشمولية الألمانية قطاعي الثقافة والإعلام إلى نسخة حيّة من آيخمان، على استعداد لتنفيذ إعدامات باردة استجابة لإرادة النظام، أو تملّقًا للقرب منه.

تبدو تفاهة المشهد الثقافي على النحو الذي وصفته آرندت في ستينيات القرن الماضي، فالفاعل أو المقوّض أو المجرم يقدم على الفعل لأجل لقمة العيش، وربما رغبة فيما هو أعلى من لقمة العيش قليلًا، بلا مرجعية أخلاقية أو قيمية.

توجد نخبة بسيطة على استعداد لقول ما تراه صحيحًا، ولتحمّل تبعات هكذا مواقف على خلاف مع الفاشية السحابيّة Cloud Fascism إن سمحنا لأنفسنا بنحت مصطلح كهذا. بادرت وزيرة الثقافة إلى سحب مسوّدة المشروع من الفضاء العام، وإخفائه من على صفحة الوزارة، ولا معلومات حول مصيره. فقد أرادت أن تقف في وجه البيروقراطية الشمولية.

تملك ألمانيا تاريخًا احترافيًا مع الفاشية، وتبدو خبرتها مع الديمقراطية أقل نضجًا. مديرة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب لم تتردد لحظة واحدة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهي تملي على المفكرين والمؤلفين الذين قدِموا من أماكن عديدة في العالم أوامرَها: نحن هنا لنقف إلى جوار إسرائيل من دون “لكن”.

منذ تلك اللحظة وقلّما سمع المرء “لكن” في ألمانيا. فالحياة الألمانية مصممة على أن تجري مع ماكينة النظام فيما لو دارت، وكلما كان المرء أكثر تناغمًا مع القواعد والأخلاقيات التي تقررها السلطة- بما في ذلك ارتكابه درجات مختلفة من العنف تجاه من تصنفهم السلطة خطرًا- كان نموذجيًا وصالحًا أكثر من الآخرين، وتحسّنت فرصه الوظيفية. وتلك هي تفاهة الشر المستوطنة في أرض الشعراء والفلاسفة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى