نشرت “الميادين. نت” المقال التالي: العلاقات بين برلين وباريس، تتعرض اليوم لامتحان صعب، وتستلزم إعادة تعريف شاملة لشكل وجوهر الذي يجب أن تبدو عليه أوروبا في المستقبل.
مع الذكرى الـ60 لـ”معاهدة الإليزيه”، التي أعادت العلاقات الفرنسية الألمانية، بعد حربين عالميتين، تتعثر مجدداً الاتصالات بين برلين وباريس. ولقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن خلافات جوهرية بين الشريكين. وجلبت العديد من المسائل الرئيسية إلى الواجهة، من سياسات الدفاع المشتركة، وإمدادات الطاقة، والموقف الموحد لأوروبا تجاه روسيا. بعبارة أخرى، القضايا التي تم تجنبها في السابق أو تم تأجيلها، انتهت الآن، مع قرع طبول الحرب في القارة.
لسنوات تم تمجيد الصداقة الفرنسية الألمانية، وهي أثبتت متانتها في الماضي خلال الأوقات الصعبة. وعمل القادة في كلا البلدين على وضع أسس الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي في سبعينيات القرن المنصرم. وبعد إعادة توحيد ألمانيا، دفع الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران، مع المستشار الألماني هيلموت كول، المفاوضات بين الأوروبيين إلى الأمام لقيام معاهدة ماستريخت عام 1991، التي أسست الاتحاد الأوروبي.
العلاقات بين برلين وباريس، تتعرض اليوم لامتحان صعب، وتستلزم إعادة تعريف شاملة للشكل والجوهر الذي يجب أن تبدو عليه أوروبا في المستقبل. في حين يفتقر المستشار الألماني أولاف شولتس إلى “الـجين الأوروبي” الذي كان يمتلكه هيلموت كول. ومع إن ماكرون يمتلك هذا الجين لكنه يرى كل شيء من خلال العدسة الفرنسية. وعندما يتحدث ماكرون عن سياسة التسلح الأوروبية، فهو يعني أساساً سياسة التسلّح الفرنسية. في نهاية المطاف، كلا البلدين عالقان في عقليتهما المحلية لا الأوروبية.
في وقت مبكر من نهاية العام المنصرم، أجرى مستشارو الأمن القومي للولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة أول محادثات سرية حول الخطوات التالية في تسليم شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا. وتقرر أن الولايات المتحدة ستزود الأوكرانيين بأنظمة باتريوت، وكان هناك أيضاً حديث عن الدبابات. في ذلك الوقت، لم يكن المسؤولون في برلين متأكدين مما إذا كانت فرنسا ستوفرها، إلى حين أعلن الرئيس ماكرون بشكل مفاجئ أن فرنسا ستزود أوكرانيا بالدبابات القتالية الخفيفة، وشدّد مسؤولون في قصر الأليزيه، على أن القرار سيجعل فرنسا أول دولة تزود أوكرانيا بالدبابات القتالية المصممة غربياً.
بالمقابل، هل كان تراجع ألمانيا عن رفضها إرسال الدبابات إلى أوكرانيا، بعد شهور من الجدل، علامة على الوحدة التي كان الجميع ينتظرها؟ بالطبع كان الأمر كذلك!
كان ماكرون، قد تحدث عبر الهاتف مسبقاً مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. خلال المكالمة، ورد أن الرئيس الأوكراني قرأ قائمة طويلة من الأسلحة التي تحتاجها بلاده. يبدو أن زيلينسكي سار بطريقة مماثلة خلال محادثة مع المستشار الألماني شولتس. هذه هي الخلفية، كما يُعتقد في برلين، والتي بموجبها تعهد ماكرون بتسليم الدبابات – وهو قرار لم يتواصل بشأنه مع شركائه الألمان مسبقاً.
كذلك، لم يتم التعبير عن الكثير من الغضب في برلين. لأن لا أحد يريد أن يهز القارب قبل الذكرى الستين لمعاهدة الإليزيه؟ أو لأن الألمان يدركون جيداً أنهم لم يبلغوا الحكومة الفرنسية دائماً بالقرارات الرئيسية؟
عندما يتعلق الأمر بالطاقة، فإن البلدين منقسمان أكثر بكثير مما هما متحدان. ولقد أوضح انقطاع إمدادات الغاز الروسي ذلك بشكل خاص. وفرنسا، في الأساس أقل اعتماداً على الغاز من ألمانيا، لأنها تعتمد بشكل أكبر على الطاقة النووية. إضافة إلى ذلك، لدى الفرنسيين مورد رئيسي آمن للغاز في النرويج. بالكاد أثرت أزمة الطاقة على جيوب المستهلكين الفرنسيين حتى الآن.
عندما أعلن شولتس، عن حزمة ألمانيا البالغة 200 مليار يورو، لتخفيف أزمة الطاقة في نهاية أيلول/سبتمبر2022، أثار مخاوف في بقية أوروبا، من أن ألمانيا ستكتسب المزيد من التميز التنافسي داخل الاتحاد الأوروبي. كما تسبب في انزعاج كبير في باريس، التي لم يقل لها أي شيء عن خطة الإنقاذ المخطط لها، قبل الإعلان عنها.
ولعدة أشهر، رفضت الحكومة الألمانية أيضاً، منح موافقتها على وضع حد أقصى لسعر الغاز الطبيعي في أوروبا، إلا قبل عيد الميلاد بأيام فقط. بعد أن تم تضمين الاتفاق إلغاء محتملاً للآلية في مسودته. وتقول مصادر مقربة من الرئيس الفرنسي إن النص “ألماني إلى أقصى حد”.
وفي خطابه حول السياسة الألمانية، الأوروبية، في العاصمة التشيكية براغ، منتصف العام الماضي، أشار شولتس إلى أن برلين تتماشى مع طموحات ماكرون لأوروبا، لكنه لم يذكر فرنسا على أنها أقرب حليف لألمانيا، ولو لمرة واحدة. كانت تلك هي المرة الأولى التي بدأت فيها باريس بالتشكيك في النوايا الحقيقية للمستشار الألماني.
الفرنسيون غير مهتمين بإضفاء الطابع الرومانسي على علاقتهم بألمانيا، كما اعتادوا أن يفعلوا. وينقل زوار قصر الإليزيه، عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قوله: “العمل الأوروبي المشترك هو ضرورة جيوسياسية، وليس مسألة رومانسية”.
هذا الشتاء، تكشفت الأزمة في أوروبا بلا رحمة، معززة بالخلافات بين برلين وباريس. ولم يكن هناك سوى تقدم في قضية واحدة من سلسلة الخلافات، وهو مشروع بناء طائرة مقاتلة أوروبية بعد مفاوضات متوترة.
تنضح أزمة العلاقات الفرنسية الألمانية، بحقيقة أن الدولتين المركزيتين في أوروبا، تتبنيان مواقف متعارضة لأن لديهما مصالح مختلفة، في الطاقة والسياسات الاقتصادية والدفاعية، وهذه ليست مفاجأة. لكن الآن، وفي ظل الأزمة، هناك توقعات عالية بأنهما ستتحدثان بصوت واحد.
إن الآراء الموجودة في هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها.