رأي

العظَمة الدولية على رؤوس الأصابع

كتب د. نسيم الخوري في صحيفة الخليج.

يمكن للمرء أن يطرح سؤالاً، أو اثنين: أين باتت تقع غزّة اليوم؟ بل أين تقع فلسطين؟

تنهمر عليك الإجابات بكلّ اللغات، والألسن القلقة، والعيون الشاخصة، بحثاً عن سؤال تاريخي ثالث: أين تقع الدول العظمى والمنظمات التي عاشت الحربين العالميتين المُثقلتين بالكوارث والمواقف، بحثاً عن ضمان مستقبل الإنسانية عبر القوانين والشرائع الدولية؟

لن تجد الجواب الشافي، لكأنّ السيادة الدولية اعتورها العجز والضياع، وبُهتان التنسيق الدولي، بينما تتلهّى شعوب الأرض بالمشاهد المتدفقة المُلقّحة ببرامج الذكاء الاصطناعي، وألعابه، بعدما غمرتها مياه العولمة فصارت الإنسانية كأنها مقلوبة على ظهرها. أيُصدّق عاقل تلك المشاهد التي تُقدّم الإنسان المعاصر بضراوته على أنّه وحش: «ni foi ni loi» أي لا إيمان، ولا قوانين تردعه، كما اعتاد وصفه النائب اللبناني فريد جبران، خلال حروب السنتين في لبنان عام 1975 التي قد تتجدّد اليوم. أستعيد قوله متطلعاً بالعين العالمية التي أدمنت الأهوال، وأتذكّر جدّنا فارس الخوري الذي علّمني فلسطين، وكان رئيساً لمجلس الأمن الدولي عامي 1947- 1948 عندما تحوّل قرار تقسيم فلسطين لإقراره في الهيئة العامة للأمم المتحدة. كتب الرجل في مذكّراته بين يدي حرفياً: «القضية ليست عربية يهودية، ولا قضية الشرق والغرب، بل قضية صراع سيطول جدّاً في المستقبل، بين العواطف الدولية العمياء، وترهّل العقول والمواقف لدى ضمور ممثلي دول العالم، وصولاً إلى طغيان شريعة الغابات على القوانين الدولية الإنسانية».

يحدوني طرح أمرين يختصّان بجذور صراع ما زالت تغلّ كما العكّازات فوق تراكم الحروب التي تبيض المذكّرات، وموسوعات الخطب، والمواقف، والقرارات الدولية، تِباعاً لأجيالنا المتلاحقة تأريخاً لمآسي ثمانية قرون من التاريخ المضمّخ بالدماء والخرائب، والاستحالات:

1- وُلدت مع فلسطين في ال1948 قبالة جبل حرمون في نائي الجنوب اللبناني. كان أبي يأمرني طفلاً وبصوت عالٍ، لا مُبرّر له، بإقفال الستائر الملوّنة ناحية الجنوب، حيث الخوف. حفظنا القدس أكثر من أسمائنا، وقصائد مدارسنا بكونها «الأرض المقدّسة»، لكنّ تاريخها باقٍ يحفل بالبؤس. مكث جدّنا حتى انتهاء دورة مجلس الأمن (13/1/1949) وكانت «تلاحقنا التحدّيات (كما كتب) مع جميع السفراء العرب الذين خرجوا من تلك القاعة الأممية، وفيهم الأمير سعود بن عبد العزيز، ورياض الصلح، وشارل مالك، عند التصويت على القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين (29/10/1947). جاءت نتيجة التصويت يومذاك 33 صوتاً مع التقسيم و13 ضد و10 ممتنعين ليُعلن انتهاء الانتداب البريطاني، وتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية مساحتها 11000 كلم مربع، ويهودية 15000 وتبقى القدس وبيت لحم دولة ثالثة تحت الوصاية الدولية.

وبقي التاريخ يتمطّى مُثقلاً بالكوارث، وصولاً إلى القرار 242 في ال1967 مع المفكّر نعّوم تشومسكي، أحد أصحاب فكرة الدولتين كحلّ مشروع للصراع تقوم إسرائيل على 67 في المئة من الأراضي التي احتلتها عام 1948 وتقوم فلسطين على 22 في المئة من أراضي فلسطين شريطة الاعتراف بإسرائيل، لكنّ نتائج المفاوضات الثنائية برعاية أمريكية جاءت مخيبة بإقامة دولة على حدود 1967، حتى بعد اتفاق أوسلو في 1991، لينتقل الملف بعدها إلى 13 سبتمبر/ أيلول 1993 عندما مهر ياسر عرفات وإسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض توقيعهما على اتّفاق أوسلو القابل بسلطة فلسطينية انتقالية، واعتُبر الاتفاق فاصلة جديدة في تاريخ فلسطين. وجاءت «انتفاضة الأقصى» (28 سبتمبر/ أيلول 2000) لتُعلن انكشاف الطريق المسدود أمام السلام الذي جهد اليمين الإسرائيلي بتعطيله بسبب العمليات الفلسطينية.

2- كبرنا أجيالاً عربية، إذن، مع المغالاة في الصراع، وتشتّت مفاهيم الحقوق، وسقطت صور الدول القارية، وبتنا كأننا نعيش أبداً أسطورة «أنكيدو»، و«جلجامش» البابلي قبل 5000 عام. تحالف الأوّل مع الثاني فساواه في بطشه لينشب قتال عنيف بينهما، وارتبطا بعدها بصداقة قويّة، تحطّمت بموت «أنكيدو» المأساوي. هكذا طاف «جلجامش» باحثاً عن أسرار الخلود، بعدما أسَرته صدمة القتل، ليظهر القلق مكرّساً في النص القديم بالفكر الوثني الذي راح يتجذّر ويغور عميقاً في الشرق والغرب، ليمتدّ بعدها نحو المسيحية بالصّلب وفقاً للعقيدة التي لم تُعتق البشرية بعد 2024 سنة من الإمعان في تقديم الذبائح تكفيراً عن الذنوب، تحقيقاً للقيم الكبرى، والغفران، غير أنّ السلوك الدولي أدمن تجاوز التقوى والمساواة والمصالح، وبقيت معضلات العدل والإنصاف محنة تغلّ في المواقف المتكرّرة، كأنها لم، ولن تُدرك روح العدالة التي شاءها الله في الأرض.

قد يقوى التنافر عند المساواة بالقتل بهدف الإلغاء، إن لم يلمس أحد المتساويَّين نعمة العدالة في تساويهما، لكنّ التاريخ يتعثّر بين حتميّة الموت واستحالة الخلود، لكأنّ الإنسان هو القلق في كلّ زمان ومكان، مقيم في عجزه عن تجنّب القتل العشوائي، أو إلغائه، والسائل أبداً: من هو «أنكيدو» ومن هو «غلغامش»؟

نحو الإنسانية المُعذّبة إذ تتعادل الحياة بالموت، لكأنّه الوجه الآخر المُظلم للحياة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى