كتب د. صلاح الغول في صحيفة الخليج.
قبل أنْ ينتهي الشهر الفائت، نشر موقع «أكسيوس» تقريراً تضمن معلومات استخبارية، تفيد بأنّ إيران تتأهب لمهاجمة إسرائيل، انطلاقاً من الأراضي العراقية، وعن طريق الجماعات المسلحة الموالية لها هناك، وباستخدام عددٍ كبير من الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية ذات قدرة تدميرية أقوى مما استخدمته في هجوميها السابقين في 13
إبريل/نيسان والأول من أكتوبر/تشرين الأول المنصرمين.
والغرض من تخطيط تنفيذ الهجوم الإيراني، الذي يأتي رداً على الهجوم الإسرائيلي على مواقع عسكرية إيرانية في 26 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، بهذه الطريقة، هو تجنب هجوم إسرائيلي آخر ضد أهداف استراتيجية في إيران، أو دون تحميل الأخيرة المسؤولية المباشرة، وفقاً للموقع الإخباري الأمريكي المطّلع. وقد كررت مواقع إخبارية أخرى، ومنها شبكة CNN، نفس مضمون التقرير، استناداً إلى مسؤول استخباراتي إسرائيلي سابق. بيد أنّ تقارير أخرى أفادت بأنّ إيران قد تستخدم الأراضي العراقية في جزءٍ من ردها على الهجوم الذي شنته إسرائيل على عدد من منشآتها العسكرية.
وكانت إيران، على لسان عدد من مسؤوليها، وعلى رأسهم المرشد الأعلى علي خامنئي، توعدت برد «قاس» و«مهلك» و«حاسم»، أو «قوي ومعقد» على الهجوم الإسرائيلي.
وبصرف النظر عن توقع توقيت الهجوم الإيراني المحتمل، والذّي أفاد مسؤولون إيرانيون بأنه سوف يأتي بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية وقبل حفل تنصيب الرئيس الجديد في يناير/كانون الثاني المقبل، فإنّ احتمال انطلاقه كلياً أو جزئياً من الأراضي العراقية دفع الحكومة العراقية، وعلى رأسها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إلى تأكيد سياسة النأي بالنفس عن الصراع العربي-الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية ولبنان، وأنّ العراق، كما أكد المستشار السياسي لرئيس الوزراء، فادي الشمري، لا يريد أن تتحول أراضيه إلى مسرح عمليات لأي طرف.
ولكن الهجوم الإيراني المحتمل، لم يكن المحفز الأساسي للمسؤولين العراقيين لتأكيد سياسة النأي بالنفس، فالواقع أنّ المحفز الرئيسي هو الهجمات اليومية أو شبه اليومية بالمسيرات على أهدافٍ إسرائيلية انطلاقاً من الأراضي العراقية، والتي تتبناها ما يعرف ب «جبهة المقاومة الإسلامية في العراق»، والتي هي خليط من الميليشيات، تضم كتائب حزب الله العراقي، وكتائب سيد الشهداء، وحركة النجباء، وجماعة «أنصار الله الأوفياء» المنشقة عن التيار الصدري. وثمة تقديرات سياسية واستخبارية بأنّ إسرائيل، كما هاجمت أهدافاً في اليمن رداً على هجمات الحوثيين على أهدافٍ في إيلات ومناطق إسرائيلية متفرقة، قد تشن ضربة عسكرية ضد أهدافٍ عراقية، انتقاماً لهجمات المسيّرات المنطلقة من غرب العراق عليها. وفي هذا الخصوص، بيّن عدد من المسؤولين الأمريكيين، وفقاً لوكالة «الأسوشيتد برس» التي لم تُسمهم، أنّ «عمليات الإطلاق المستمرة للطائرات المسيرة من داخل العراق باتجاه إسرائيل زادت من احتمالية الرد الإسرائيلي المباشر على تلك الهجمات». وأوضح تقرير للوكالة، استناداً إلى مصادر أمنية أمريكية، أن وتيرة الهجمات بالمسيرات انطلاقاً من الإقليم العراقي ضد أهدافٍ إسرائيلية باتت لافتة، حيث تم رصد خمس هجمات يومياً في المتوسط.
ولا يستطيع أن يجزم المراقبون بوجود تنسيق بين جبهة المقاومة الإسلامية في العراق ووكلاء إيران أو حلفائها في لبنان (حزب الله) أو اليمن (جماعة الحوثي) أو غزة (حركتا حماس والجهاد الإسلامي)، وإنما تنسق هذه الجبهة نشاطاتها مع قوات الحرس الثوري الإيرانية، وفيلق القدس فيها على وجه الخصوص الذي يدير الأمور، ويُعد حلقة الوصل بين جميع أطراف «محور المقاومة الإقليمي».
ومع ذلك، تؤمن جبهة المقاومة الإسلامية في العراق بمبدأ وحدة الساحات، وأنّ السبيل الوحيد لوقف هجماتها على إسرائيل هو وقف العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان.
ومن ثم، تهدف سياسة النأي بالنفس العراقية إلى عدم إعطاء مبررات لإسرائيل للهجوم على العراق، أو توسيع رقعة الصراع، وهو الهدف الذّي تسعى إليه حكومة اليمين الديني المتطرفة بزعامة بنيامين نتنياهو.
وقد استدعت هذه المقدمات إلى أن يجتمع رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني بقادة الميليشيات العراقية في قوات الحشد الشعبي وخارجها، لإفهامهم أن قدرات الدفاع الجوي العراقية لا تستطيع مقاومة ضربة عسكرية إسرائيلية محتملة، دون الحديث عن آثارها الكارثية المتوقعة على البنية التحتية، ولاسيما البنية التحتية للطاقة. بعبارة أخرى، لا تستند سياسة النأي بالنفس العراقية إلى مبادئ أيديولوجية أو انحيازاتٍ سياسية، وإنما تقوم على أساس براغماتي عقلاني.
كما قادت سياسة النأي بالنفس العراق إلى التواصل مع دول الجوار، سعياً لخفض التصعيد في المنطقة. وقد اتضح ذلك في التحركات الدبلوماسية العراقية تجاه دول الإقليم العربية وغير العربية. ولعل ذلك يعتبر سلوكاً لافتاً، وذلك أنّ تقديرات العديد من المراقبين كانت تصب في اتجاه اصطفاف العراق مع إيران ومحور المقاومة الإقليمي.