رأي

العراق الدولة الدينية وميليشيات الخمور

كتب فاروق يوسف في “العرب اللندنية”:

حين سُئل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عن حجم الأموال المنهوبة من العراق بعد عام 2003 وهل هي فعلا قرابة الـ400 مليار دولار أميركي، لم يجب بشكل واضح وفضّل أن يعترف بوجود نهب منظم لثروات العراق عبر كل الحكومات السابقة مستخفا بالرقم فيما إذا كان أقل أو أكثر.

وها هو يضع مبدأ الإفلات من العقاب موضع التنفيذ حين قرر أن استعادة جزء ولو بسيط من المبالغ المنهوبة أفضل من أن ينال اللصوص عقابا عادلا. وإذا ما كانت هيئة النزاهة قد أصدرت مذكرات قبض في حق عدد من المتهمين بما يُسمّى بسرقة القرن فإن واحدا من أهم المدبرين لتلك العملية (حوالي 2.5 مليار دولار) قد تم إطلاق سراحه بعد أن سدد بالدينار العراقي جزءا صغيرا من الأموال التي هرّبها إلى الخارج.

يقر السوداني الفساد ويعترف به، كونه صار عُرفا وتقليدا في المجتمع العراقي. ولا يمكن لدولة يقودها فاسدون أن تكون خالية من الفساد كما أن السوداني نفسه لكونه متشددا عقائديا لا يمكنه أن يقف ضد فتاوى رجال الدين الذين يحللون سرقة أموال الدولة كونها جزءا من ممتلكات الإمام الغائب. لا أقول ذلك تكهنا، بل استنادا إلى المئات من الخطب الدينية التي إما أنها تحلل السرقة أو أنها تعتبرها ذنبا لا عقاب سماويا عليه.

السوداني يكشف عن شخصيته العقائدية المتشددة حين يسعى من خلال قراره المذكور تحويل العراق إلى “إيران الصغرى” مصادرا الحريات العامة

أما في حالة تداول الخمور وتناولها فقد أصدر السوداني أمرا حازما بتطبيق قرار كان مجلس النواب قد أصدره عام 2016 ووضع على الرف في انتظار الرجل الذي يمرره واقعيا متحديا باسم الأخلاق شريحة كبيرة من المجتمع العراقي كان تناول الخمور جزءا من تراثها الشخصي الذي لم يكن يسيء إلى العادات والتقاليد العامة ولا يدخل في باب التناقض بين الفضيلة والرذيلة ولا يتعارض مع كون المجتمع العراقي محافظا. وهي صفة لا أعتقد أنها ثابتة أو مطلقة أو عامة.

لقد عرف العراقيون العرق المستكي وكان شارع أبونواس هو الشارع الأشهر في بغداد الذي تنتشر على ضفته اليسرى الحانات، أشهرها كاردينيا وسرجون. أما “جبهة النهر” و”شريف وحداد” فقد كانتا تقعان في نهاية شارع النهر وهما حانتان ارتبطتا بتاريخ العراق المعاصر.

لم يكن وجود المئات من الحانات في أماكن متفرقة من بغداد يزعج أحدا. بل إن المتسوّلين كانوا يفضلون الجلوس على أبواب الحانات لا على أبواب المساجد كون زبائن الأولى أناسا طيبين وكرماء.

لا أعتقد أن الخطوة التي اتخذها السوداني جاءت من غير تخطيط مسبق.

الرجل الذي تربى في أنفاق حزب الدعوة كان مؤمنا ولا يزال بقيام دولة دينية في العراق على غرار جمهورية الخميني في إيران. في تلك الدولة كما هو الحال لدى جماعة الإخوان المسلمين تحتل ثنائية الخمر وحجاب النساء المرتبة الأولى في الحساب والعقاب أما الآثام الأخرى فيمكن التفاوض عليها في إطار شيء من التسامح. فحتى الزنا قد تم تبويبه فقهيا بحيث يمكن أن يكون متداولا بإشراف المؤسسة الدينية.

العداء للخمر والنساء هو محور تفكير السوداني بالرغم من أنه يحاول تقديم نفسه باعتباره رجل انفتاح على العالم العربي وهو ما يتناقض مع شخصيته الحقيقية التي يحاول من خلالها الامتثال لمفردات المشروع الإيراني في المنطقة. فأن يقع منع للخمور وأن يُفرض الحجاب على النساء فذلك معناه قيام الدولة الدينية في العراق. لا حاجة إلى تغيير اسم الدولة إلى جمهورية العراق الإسلامية.

ما يفعله السوداني في الداخل لا علاقة له بما يفعله في الخارج. وهو يظن أن العالم لا يراقب خطواته المريبة التي تكشف عن أنه ليس سوى وكيل لإيران في مفاوضاتها التي لن تنتهي على خير في كل الأحوال.

يكشف السوداني عن شخصيته العقائدية المتشددة حين يسعى من خلال قراره المذكور تحويل العراق إلى “إيران الصغرى” مصادرا الحريات العامة التي نص الدستور الذي ساهمت الأحزاب الشيعية الحاكمة في كتابته.

وكما أتوقع فإن السوداني لن يستمر في أداء وظيفته بسبب الهيجان الشعبي، كما أن ضرب الحريات العامة سيؤدي إلى غياب الثقة بالسوداني عربيا، بعد أن صار واضحا أن الرجل يؤمن بشدة بضرورة إلحاق العراق بإيران.

عبر السنوات الماضية أكدت تسريبات أن استيراد الخمور يتم بإشراف ميليشيات مهيمنة على الشارع. لذلك ليس من المستبعد الآن وبعد قرار منع الخمور أن تقوم الميليشيات نفسها بإدارة العمل بشكل كليّ، لكن في الخفاء الذي يشبه العلن.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى