العدالة الدولية في مواجهة القوّة
كتب الهاشمي نويرة, في “البيان” :
تقدّم المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية كريم خان بطلب مذكرات اعتقال ضدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير الحرب في حكومته يواف غالانت بسبب ارتكابهما جرائم حرب ضدّ الإنسانية ومنها جريمة تجويع الشعب الفلسطيني، وشمل الطلب أيضاً ثلاثة من قادة «حماس» بتهمة ما أسماه المدعي العام «القيام بأعمال إرهابية» في إشارة إلى عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر الماضي. وعلى المستوى الإجرائي، يُنتظر أن تبحث هيئة المحكمة الطلب بغاية المصادقة عليه وإكسابه صفة النفاذ.
وأعلن كريم خان أنّه اعتمد في طلبه شهادات ميدانية وتصريحات علنية صادرة عن مسؤولين إسرائيليين.
وكانت ردود الفعل الصادرة عن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية عنيفة جدّاً، إذْ اعتبرها نتانياهو «فضيحة» و«موجّهة ضدّ دولة إسرائيل»، ومديناً بشدّة استهداف «أكبر جيش أخلاقي في العالم»، وكذلك «مقارنة ما تقوم به دولته الديمقراطية بأفعال جماعة إرهابية»، يكاد يكون الإجماع حاصلاً داخل الدولة العبرية على رفض طلبات المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، وهو أمر مفهوم لجهة أنّ هذا سيفتح أبواب جهنّم أمام مسؤولي دولة الاحتلال مهما كانت توجّهاتهم.
وتركّز الدعاية الصهيونية على رفض حالة التوازي والمقارنة بين ما تقوم به ادّعاء «حكومة ديمقراطية» وجماعة تعتبرها إرهابية، وهو خطاب دعائي بدأ ينتشر بقوّة في فضاءات اتّصال وإعلام الدول الغربية. وعلى مستوى ردود الفعل الدولية، وبالكاد نطق المدعي العام بطلبه، انتفض الرئيس الأمريكي جو بايدن مدافعاً عن الحليف الأقوى، ونفى قيام إسرائيل بجرائم حرب وإبادة جماعية في غزّة.
وأعربت دول أخرى منها إيطاليا وبريطانيا عن رفضها القرار، وفي المقابل، أعلنت فرنسا دعمها لمحكمة الجنايات الدولية واستقلاليتها. ومنذ فترة تكثّفت الضغوط على المحكمة لمنع التقدّم بطلب بطاقات الجلب ثمّ وبعد صدورها، من أجل عدم تفعيل هذا الإجراء الاستثنائي في تاريخ المحكمة.
وتأتي أهمّية طلب مذكرات الاعتقال ضدّ نتانياهو وغالانت في كونها الأولى منذ 20 سنة التي توجّه لقادة دولة حليفة للولايات المتحدة، وهو تطوّر يضع الدول الغربية في مأزق كبير، لأنّ المساعي المبذولة من أجل تحصين دولة إسرائيل وقادتها ضدّ الملاحقة القضائية تعيد الحديث بقوّة عن ازدواجية المعايير في القضاء الدولي، وتعطي مبرّرات إضافية للخطاب الذي يؤكّد على أنّ القضاء الدولي موجّه ضدّ الدول الضعيفة وليس ضدّ «الديمقراطيات» من الدول الغربية.
وهو ما يكشف زيف الأخلاق والقيم في الاحتكام إلى القانون الدولي على قدم المساواة.x وبالنظر إلى طلب المدّعي العام، يتبيّن أنّه موجّه إلى سياسة دولة استقرّت سياساتها منذ عشرات السنين على تضييق الخناق على الشعب الفلسطيني أينما كان في غزّة أو في الضفة الغربية .
وذلك بهدف التهجير القسري والاستحواذ النهائي والتامّ على الأرض الفلسطينية المحتلة كما هو مثبت في سياسات وتصريحات المسؤولين في الدولة العبرية، واعتمدت لذلك سياسة التجويع الممنهج للشعب الفلسطيني وذلك من خلال تعطيل وصول الغذاء والدواء وقطعه في أغلب الأحيان.
إنّ دخول المدّعي العام من باب المسائل الإنسانية وتحديدا من باب «سياسة التجويع» فاجأ فيما يبدو دولة إسرائيل التي سارعت بنفي هذه الاتهامات، ولكنّ الوقائع تُثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ هذه السياسات وطابعها العام، سواء كان ذلك في غزّة أو في الضفة الغربية.
وذلك في محاولة فاضحة لضرب مقوّمات الدولة الفلسطينية المستقبلية، بعدما ضربت مصداقية السلطة الفلسطينية وقتلت كلّ إمكانية بديل لما تُسميه بالحركات الإرهابية والمتطرفة.
وتشير بيانات وزارة المالية الفلسطينية إلى خطورة الوضع المالي للسلطة الوطنية الفلسطينية، جراء استمرار حكومة الاحتلال الإسرائيلية باحتجاز أموال الشعب الفلسطيني. وتحتجز إسرائيل نحو 6 مليارات «شيقل» من الأموال الفلسطينية بحجّة دعم عائلات أسر الشهداء والجرحى وقطاع غزّة.
ويضاف إلى سياسة الاستيلاء على المال العامّ، «الغزوات» الممنهجة التي تمارسها دولة الاحتلال ضدّ المصارف الفلسطينية من أجل الاستحواذ على الأموال الخاصّة.
من الواضح إذاً أنّ الدولة العبرية أحكمت سياستها من أجل تفقير السلطة الفلسطينية ومنعها من القيام بواجباتها تجاه مواطنيها وتجويع الأفراد. أركان الجريمة واضحة وطلبات المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية أوضح، وقبل ذلك أسّست محكمة أخرى هي العدل الدولية لجريمة الإبادة الجماعية والعرقية.
ولكن موازين القوى على الأرض قد تُطيح للأسف بالقانون الدولي وبنوايا البعض في إقامة العدل وإعادة الحقوق إلى أصحابها.