رأي

العالم ينتظر بفارغ الصبر حكم “العدل الدولية” ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين

كتب طارق يوسف الشميمري في صحيفة السياسة.

في 12 يناير 2024، اختتمت محكمة العدل الدولية جلستها الأولى في قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، والتي اتهمت فيها جنوب أفريقيا إسرائيل بنية ارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
وفي رد سريع، أعلنت محكمة العدل الدولية أنها ستصدر في 26 يناير 2024 حكمها بشأن التدابير الموقتة في الشق المستعجل بالدعوى.
ومن خلال تحليل القضية والنظر في التحديات وفرص النجاح أمام جنوب أفريقيا في قضيتها أمام محكمة العدل الدولية، يتضح ما يلي:
أولاً: لا تشترط المحكمة في إصدار الأوامر والإجراءات التحفظية الموقتة النظر في موضوع الدعوى، أو تقييم الأدلة المقدمة، بل ينظر فقط في اوراق الدعوى إذا كان هناك ظرف، أو حدث طارئ، سيؤدي إلى ضرر لا يمكن علاجه، ويتطلب إجراءات موقتة عاجلة لا تحتمل التأخير.
أما بالنسبة لطلب جنوب أفريقيا، فإن الاشتباه في ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، يكفي لاستيفاء شرط قبول المحكمة لطلب إصدار أمر احترازي موقت.
والشبهة قائمة حاليا في ظل الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، والتي تترتب عليها أضرار إنسانية جسيمة لا يمكن علاجها دون اتخاذ إجراءات عاجلة.
ثانياً: كما قدمت جنوب أفريقيا إلى المحكمة مجموعة من الطلبات العاجلة، أهمها مطلب الوقف الفوري وتعليق العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، إلا أن الحزمة تضمنت، أيضاً، طلب أن تأمر المحكمة بإصدار أمر بوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وأمر الحكومة الإسرائيلية بعدم التحريض مباشرة وعلني على ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وأن تحاسب إسرائيل أعضاء حكومتها الذين يفعلون ذلك، وأن تتخذ تل ابيب جميع التدابير اللازمة لإلغاء القرارات الحكومية ذات الصلة بمنع وحرمان الفلسطينيين في قطاع غزة من الوصول إلى الغذاء.
وأن المحكمة تأمر إسرائيل باتخاذ تدابير احترازية لمنع تدمير أدلة جيشها، والاحتفاظ بها لعرضها على المحكمة، وأن تقدم تقارير دورية حول التدابير المتخذة للامتثال للتدابير الاحترازية، والامتناع عن اتخاذ تدابير من شأنها أن تزيد من تفاقم النزاع.
وباستثناء طلب الوقف الفوري للعمليات العسكرية، فإن الطلبات المقدمة من جنوب أفريقيا لن تواجه طعوناً قانونية، لأن معظمها معقولة ومتناسبة مع ظروف الحدث وخطورته.
ثالثا: فيما يتعلق بطلب الوقف الإسرائيلي الفوري لعملياتها العسكرية كافة في قطاع غزة، فإن جنوب أفريقيا قد تواجه بعض التحديات القانونية فيما يتعلق بتحديد طبيعة الإجراء الموقت وصياغة الجزء التنفيذي من هذا الطلب، حيث كان طلب جنوب أفريقيا عاما في عبارته “جميع عملياتها العسكرية”.
وقد يكون من الصعب على المحكمة أن تستجيب بشكل كامل لهذا الطلب لأنه لا يتفق مع حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وبما أنه حتى لو اعتبرت بعض أعمال إسرائيل غير قانونية لأنها تحمل طابع الإبادة الجماعية، فإن أعمالاً أخرى قد تكون مشروعة من وجهة نظر المحكمة، ووجهة نظر القانون الدولي، مثل وقف إطلاق الصواريخ الموجهة نحو إسرائيل، ومحاولة الوصول إلى الرهائن الإسرائيليين، أو استهداف بعض أعضاء حركة “حماس” خصوصا.
لذلك، فإن القول بوقف العمليات العسكرية كافة التي تمارسها إسرائيل قد يعتبر طلباً يتضمن زيادة أو مبالغة، وخروجاً عن نطاق تطبيق اتفاقية منع الإبادة الجماعية إلى حد المساس بحق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها، وفق ادعاء إسرائيل.
وعليه، يتوقع أنه قد ينشأ خلاف بين قضاة المحكمة بشأن صياغة الأمر التنفيذي الموقت إذ قد تحذو المحكمة حذوها في قضية البوسنة ضد يوغوسلافيا (صربيا والجبل الأسود) التي امتنعت المحكمة عن إصدار أمر احترازي بوقف العمليات العسكرية التي تمارسها صربيا تماما، فقد اقتصرت عند صياغة كلمة المنطوق على إلزام صربيا باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، من دون ذكر العمليات العسكرية، أو وقف العدوان بعامة.

المدة الزمنية لإصدار الحكم الاحترازي الموقت
وفيما يتعلق بالمدة الزمنية لإصدار الحكم الاحترازي، أعلنت محكمة العدل الدولية ذلك سوف يسلم في 26 يناير أمره بشأن طلب الإشارة إلى التدابير الموقتة.
وعادة ما يتم تطبيق الأمر الموقت خلال فترة تتراوح من أسابيع إلى أشهر، ففي قضية البوسنة، على سبيل المثال، جاء قرار المحكمة بعد ثلاثة أسابيع من تقديم البوسنة للطلب العاجل، وبعد أقل من أسبوع من سماع المرافعة الشفهية بشأن الطلب.
أما في قضية غامبيا، فقد جاء قرار المحكمة بشأن الإجراءات الاحترازية بعد نحو شهرين من تقديم غامبيا طلبها (ولكن بعد نحو شهر واحد فقط من جلسات المرافعة لهذا الطلب).
وفي القضية التي رفعتها كندا وهولندا ضد سورية بشأن التعذيب، جاء قرار المحكمة بشأن التدابير الاحترازية بعد أكثر من خمسة أشهر من تقديم الطلب (لكن بعد نحو شهر واحد فقط من جلسات المرافعة للطلب).
وفي القضية المستمرة بين أوكرانيا وروسيا، جاء قرار المحكمة بشأن التدابير الاحترازية بعد نحو شهر من تقديم أوكرانيا الطلب، وبعد نحو أسبوعين من جلسات الاستماع العامة.
وفي ما يتعلق بموضوع النزاع، أعتقد أن الدعوى لا تخلو من الطعون القانونية التي ستواجه بالضرورة من الطرفين:
أولاً: بالنسبة الى جنوب أفريقيا فإن إثبات ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية لا يخلو من التحديات، إذ يتطلب القانون الدولي إثبات نية واضحة ومحددة لتدمير جماعة بأكملها، أو جزء منها ينتمي إلى عرق أو دين، أو إثنية معينة. ووصفت جنوب أفريقيا في ادعائها العدوان الإسرائيلي أنه “يحمل طابع الإبادة الجماعية”، لأنها تهدف إلى تحقيق تدمير قسم كبير من الفلسطينيين، وتحديداً الفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة.
وكدليل على نية الإبادة الجماعية، استشهدت جنوب أفريقيا بقتل إسرائيل المتعمد للمدنيين الفلسطينيين في غزة، وإلحاق أضرار، جسدية ونفسية، خطيرة بهم، وتعمد خلق ظروف معيشية خاصة تهدف إلى تدميرهم جسديا، مثل عزلهم وحرمانهم من الماء والدواء. والوقود والمأوى وغيرها من المساعدات الإنسانية.
التصريحات المتكررة التي أدلى بها ممثلو الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، والرئيس، دليل على نية الإبادة لكن هذه الأدلة يمكن دحضها وتصويرها على أنها رد فعل على الهجوم الذي نفذته حركة “حماس” في 7 أكتوبر 2023، وأن إسرائيل لم تكن لتفعل كل ذلك لولا هذا الهجوم، وأن الحصار المفروض على غزة منذ ذلك الحين، فالانسحاب الإسرائيلي ما هو إلا إجراء احترازي لمنع عمليات المقاومة من الوصول إلى عمق إسرائيل. ولذلك فإن العمليات العسكرية الإسرائيلية، رغم وحشيتها قد لا ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وفق بعض الآراء القانونية، إذ صنفتها عدواناً غير شرعي أو غير مشروع لأنها لا تتناسب مع حجم الهجوم الذي شنته “حماس” على 7 أكتوبر 2023، ولا توصف بجريمة إبادة جماعية.
ولذلك، قد تواجه جنوب أفريقيا بعض الصعوبات القانونية في إثبات وجود نية الإبادة بشكل شامل وقاطع.
ثانياً: بالنسبة لإسرائيل، ستفتح هذه الدعوى المجال أمام الخوض في بعض القضايا القانونية والتاريخية التي حاولت إسرائيل تجنب الخوض فيها منذ عقود، وبينما يركز ادعاء جنوب أفريقيا على تصرفات إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، فإن ورقة الادعاء تضمنت بمهارة – القضية الفلسطينية بعامة، والسياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين خلال حكمها العنصري الذي دام 75 عاما، واحتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية منذ عام 1956، وحصارها لقطاع غزة الذي استمر 16 عاما.
ولذلك فإن البت في هذه القضية سيتطلب بالضرورة النظر في بعض القضايا القانونية الشائكة والمحرجة لإسرائيل، مثل ما إذا كانت فلسطين دولة، ومن الناحية القانونية، ما إذا كان من الممكن اعتبار “حماس” ممثلة لفلسطين في قطاع غزة، وما إذا كانت إسرائيل تتمتع بالسلطة اللازمة والحق في الدفاع عن نفسها ضد كيان لا يعتبر دولة، وما إذا كانت غزة لا تزال أرضًا محتلة من وجهة النظر القانونية.
على سبيل المثال، أن القانون الدولي العرفي لا يعترف بالدفاع عن النفس إلا ضد الدول ذات السيادة، وبالتالي لا يمكن تبرير العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة على أنه دفاع عن النفس بالمعنى التقليدي للقانون الدولي لأن إسرائيل لا تعترف بفلسطين كدولة مستقلة، وبالتالي فإن دفاع إسرائيل عن نفسها لا يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار إلا في سياق قواعد القانون الدولي للاحتلال، وإذا تم بحث مسألة الدفاع عن النفس من هذا المنظور، فإن المحكمة ستتناول بالضرورة مسألة حصار إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وتسويتها القانونية، وهذا الحصار (كاحتلال فعلي) ومدى شرعيته وعلاقته السببية بالهجوم الذي نفذته حركة “حماس” في 7 أكتوبر 2023، كلها قضايا نفتها إسرائيل لفترة طويلة عبر خطابها الإعلامي الذي يتلاعب باللغة والسياسة والمصطلحات غير المنضبطة.
لكن هذه الدعوى ستضع حدا لهذه السياسة غير المنضبطة، وستصدر الحكم القضائي الدولي الملزم ليس فقط في شكله (بغض النظر عن نتيجة الحكم ولكنه ملزم أيضاً في أسبابه وظروفه).

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى