الطاقة ودول الخليج: معضلة الصين
لعبت بكين دوراً كبيراً في تخفيض أسعار النفط في الأشهر الأخيرة
كتب أنس بن فيصل الحجي, في “اندبنت عربية” :
ما إن بدأت بارقة التحسن بالسوق، وبدأت دول “أوبك+” بالتخطيط لزيادة الإنتاج وإنهاء التخفيضات الطوعية تدريجاً، تباطأ نمو الاقتصاد الصيني بصورة كبيرة، ولم يتحقق ما كان متوقعاً، مما جعلها تمدد التخفيضات لمدة شهرين حتى اجتماع “أوبك+” القادم في الأول من ديسمبر المقبل.
أصبحت الصين أكبر مؤثر في أسواق الطاقة عالمياً، فهي أكبر مستورد للنفط والغاز عالمياً، وثاني أكبر مستهلك لهما، كما أنها أكبر منتج للألواح الشمسية وعنفات الرياح وللسيارات الكهربائية. وهي من كبار منتجي النفط في العالم إذ تنتج أكثر من 4 ملايين برميل يومياً، ولديها أكبر طاقة تكريرية للنفط، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة التي كانت في المركز الأول لعقود طويلة.
مع تحول الغرب عن النفط ونمو الصين خلال العقود الأخيرة، كان أكبر نمو في الطلب على النفط والغاز في الصين. لهذا غيرت الدول المصدرة للنفط والغاز اتجاه بوصلتها وحولتها لجنوب شرقي آسيا عموماً والصين خصوصاً ومنها دول الخليج. كان هذا التحول منطقياً ويتلاءم مع كل الاتجاهات والتوقعات، وفعلاً نما الطلب الصيني على النفط والغاز بصورة مستمرة خلال الـ20 عاماً الماضية، واستفادت دول الخليج من هذا النمو، إلا أن دوام الحال من المحال! جاءت ثورة “الصخري” الأميركية لتقلب كل الاتجاهات رأساً على عقب، وانخفض استيراد الولايات المتحدة من النفط بأكثر من النصف، وهو الآن قرابة ثلث ما كان متوقعاً في الماضي.
كما انخفض استيراد الولايات المتحدة من الغاز المسال إلى قرابة الصفر، بعد أن كانت التوقعات تشير إلى أنها ستصبح أكبر مستورد للغاز المسال في العالم. هذه الثورة جعلت دول الخليج تركز على آسيا والصين أكثر من ذي قبل، وركزت جهودها على آسيا.
وزاد الطين بلة قرار الحكومة الأميركية في نهاية عام 2015 السماح بتصدير النفط الخام الأميركي بعد أن كان ممنوعاً على مدى أربعة عقود، فبدأ النفط يتدفق إلى الأسواق التقليدية لدول الخليج في آسيا وينافس النفط الخليجي، وبدأت الصين تستورد النفط الأميركي. وبعد بضعة أعوام بدأت الولايات المتحدة تصدير الغاز المسال إلى أوروبا وآسيا، بما في ذلك الصين، وهي الآن أكبر مصدر للغاز المسال في العالم.
ثم قامت روسيا بغزو أوكرانيا، وفرضت مجموعة السبع عقوبات على روسيا، فحولت موسكو صادراتها من النفط والغاز إلى آسيا واضعة بذلك ملحاً على الجرح، إذ انخفضت صادرات دول الخليج للصين والهند، ومع زيادة طلب كلتا الدولتين، تمت مقابلة هذه الزيادة برفع كمية الواردات من روسيا في وقت قامت فيه دول الخليج بتخفيض الإنتاج بهدف تحقيق التوازن في أسواق النفط ومنع وجود فائض كبير فيها.
وما إن بدأت بارقة التحسن بالسوق، وبدأت دول “أوبك+” بالتخطيط لزيادة الإنتاج وإنهاء التخفيضات الطوعية تدريجاً، تباطأ نمو الاقتصاد الصيني بصورة كبيرة، ولم يتحقق ما كان متوقعاً، مما جعلها تمدد التخفيضات لمدة شهرين حتى اجتماع “أوبك+” القادم في الأول من ديسمبر (كانون الأول) من هذا العام.
خلاصة القول هنا، إنه مع التوجه لآسيا عانت دول الخليج من خمسة أمور غير متوقعة ومتتالية عبر 12 عاماً منعتها من تحقيق ما تريده من السوق على رغم تخفيض الإنتاج، وهي:
خلال الـ25 عاماً الماضية التي نما فيها الاقتصاد الصيني بصورة كبيرة، انخفض الطلب على النفط في الصين مرتين، وفي كلتيهما كان الخفض متوقعاً: عام 1997 أثناء الأزمة المالية الآسيوية، وفي عام 2022 بسبب إغلاقات كورونا. وتوقف نمو الطلب على النفط مرتين، مرة عام 2005 وأخرى عام 2008. عام 2005 تم تطبيق قوانين حماية العمال، مما أجبر آلاف المصانع على التوقف عن استخدام مولدات الكهرباء الخاصة التي تعتمد على الديزل. عام 2008 ارتفعت أسعار النفط إلى مستويات تاريخية فتباطأ الطلب عليه، ثم حصلت أزمة العقار الأميركية التي نتج منها أزمة مالية عالمية.
الذي حصل في العام الحالي يختلف عن كل الماضي لأن أي خفض في نمو الطلب على النفط أو الطلب نفسه يعود إلى مشكلات هيكلية في الاقتصاد الصيني. كما يختلف عن الماضي بأن التباطؤ بهذه الصورة لم يكن متوقعاً. لجوء الحكومة الصينية للتحفيز المالي منطقي، لكن آثاره محدودة بسبب الحروب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي على الصين.
هناك خلاف كبير حالياً حول نمو الطلب على النفط في الصين. فتقرير “أوبك” الشهري يرى أن النمو سيكون بنحو 580 ألف برميل يومياً لهذا العام، بينما ترى وكالة الطاقة أنه سيكون بحدود 150 ألف برميل يومياً فحسب، بينما يرى آخرون أن الطلب بلغ ذروته في العام الماضي وهو في خفض حالياً، وقد يكون معدل الخفض نحو 300 ألف برميل يومياً مقارنة بالعام الماضي.
الإشكالية هنا أن الحكومة الصينية لا تنشر أي معلومات عن الطلب، لكن تنشر بعض المعلومات الأخرى المتعلقة بالواردات والصادرات وعمليات المصافي، وعادة يستخدم المحللون هذه المعلومات لحساب الطلب على النفط. وتوضح البيانات خفضاً كبيراً في واردات النفط الصينية عام 2024 مقارنة بالواردات في العام الذي سبقه إذ تجاوز الخفض مليون برميل يومياً في بعض الأشهر.
وتوضح التحليلات الإحصائية أن هناك علاقة ارتباط قوية بين الواردات والطلب على النفط خلال الـ10 أعوام الماضية، ومن ثم فإن خفض الواردات يعني بالضرورة خفض الطلب على النفط، هذا يعني أن كلاً من “أوبك” ووكالة الطاقة الدولية بالغا في تقديرهما للطلب على النفط، خصوصاً أن نسبة تشغيل المصافي في خفض مستمر خلال الأشهر السبعة الماضية. ويدعم هذا الانتشار الكبير للسيارات الكهربائية وللشاحنات الكبيرة العاملة بالغاز المسال، وتوقعات شركات النفط الصينية أن الطلب على البنزين والديزل سيصل إلى ذروته خلال الأشهر المقبلة. وقد استغل أنصار السيارات الكهربائية هذه الأخبار وبدأوا بالترويج لها لسببين، الأول كي يوضحوا أن السياسات الحكومية ومزيد من الدعم يؤديان إلى انتشارها، والثاني أن ذلك الانتشار يؤدي إلى تخفيض الطلب على النفط، ومن ثم تخفيض انبعاثات الكربون.
لكن كل التوقعات والأرقام أعلاه خطأ لسبب بسيط: العلاقة التاريخية بين واردات النفط والطلب عليه في الصين ضعفت بصورة كبيرة في 2024 بسبب لجوء بكين للسحب من المخزونات لتغذية الطلب على النفط. وبناء على تحليلات كاتب هذا المقال فإن متوسط نمو الطلب على النفط في الأشهر التسعة الأولى من هذا العام بلغ 490 ألف برميل يومياً، هذا التقدير أقل من توقعات “أوبك” الحالية بنحو 90 ألف برميل يومياً، وأكبر من توقعات وكالة الطاقة الدولية بنحو ثلاثة أضعاف.
إذا كان هناك نمو في استهلاك الصين من النفط، لماذا انخفضت أسعار النفط إذاً؟ السبب هو التوقعات المتفائلة. فوكالة الطاقة الدولية كانت تتوقع أن ينمو الطلب على النفط في الصين بمقدار 800 ألف برميل يومياً، والآن خفضت ذلك إلى 150 ألف برميل يومياً فحسب. وكانت “أوبك” تتوقع أن ينمو بمقدار 710 آلاف برميل يومياً، والآن تتوقع أن ينمو بمقدار 580 ألف برميل يومياً. باختصار لعبت الصين دوراً كبيراً في تخفيض أسعار النفط في الأشهر الأخيرة لسببين، الأول خفض الطلب على النفط مقارنة بالتوقعات بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي، والثاني السحب من المخزونات لتلبية الطلب على النفط بدلاً من استيراده.
السؤال الأخير، ما دور انتشار السيارات الكهربائية وشاحنات الغاز المسال في تخفيض الطلب على النفط في الصين؟ لا أحد ينكر دور هذه السيارات والشاحنات في تخفيض نمو الطلب على النفط، لكن هناك مبالغات في دورها لأسباب عدة ذكرت بإسهاب في مقالات ومساحات سابقة. لكن التحليلات الإحصائية تشير إلى أن هذه السيارات والشاحنات أسهمت فقط بـ25 في المئة بالخفض مقارنة بالتوقعات، بينما يعود 75 في المئة إلى ضعف النمو الاقتصادي.
والآن بيت القصيد: ماذا لو وصل الطلب على النفط في الصين فعلاً إلى ذروته وبدأ بالخفض سواء الآن أو مستقبلاً؟ الأمر نفسه ينطبق على الغاز، ما مستقبل صناعة النفط والغاز الخليجية؟ القول إن الهند ستعوض أمر مشكوك فيه، وأوروبا وأميركا خارج الصورة، لكن هناك حلولاً عديدة اكتشفتها روسيا أخيراً، وهذا موضوع مقال آخر.
وماذا لو حصل ركود اقتصادي كبير في الصين، ما آثار ذلك في أسواق الطاقة بصورة عامة، ودول الخليج خصوصاً؟ هناك احتمالات عدة منها خفض كبير في أسعار المنتجات الصينية من ألواح الطاقة الشمسية لعنفات الرياح إلى البطاريات والسيارات الكهربائية. قد يبدو ذلك جيداً، خصوصاً للدول التي يمكن أن تنتهز الفرصة، وتشتري من الصين، لكنه مدمر للصناعات الناشئة في الدول التي تريد الاستغناء عن البضائع الصينية أو تنافس بكين. كما أنه لن يكون هناك أي ضمان أو خدمات ما بعد البيع. لكن الأزمة ستحصل لاحقاً عندما تفلس الشركات الصينية وتغلق أبوابها، فينخفض المعروض وترتفع أسعار هذه المنتجات عالمياً بصورة كبيرة.
مأزق الدول الغربية
لنفترض أن احتمال حدوث الركود الاقتصادي ضعيف، فإن الولايات المتحدة وأوروبا في مأزق كبير للأسباب التالية:
تبنت هذه الدول سياسات محاربة التغير المناخي والتغير الطاقي، مما نتج منه إغلاق عديد من مصافي النفط.
زاد اعتمادها على المنتجات الصينية بصورة كبيرة من الألواح الشمسية إلى السيارات الكهربائية، مما يهدد مستقبلها وأمنها القومي، فبدأت بالتعويض من طريق الاستثمار في بدائل عن المنتجات الصينية.
في وقت توسعت فيه الصين ببناء المصافي حتى أصبح لديها أكبر طاقة تكريرية في العالم.
والآن ظهر واضحاً أن الولايات المتحدة وأوروبا لن تنجح في سياساتها المناخية، مما يعني أن الطلب على المنتجات النفطية لن ينخفض كما كان متوقعاً.
لكنها أغلقت عدداً من مصافيها، مما يعني عودتها إلى الاعتماد على الصين، لكن هذه المرة، على منتجات الصين النفطية!
خلاصة الأمر، تركيز أسواق دول الخليج على الصين يحتاج إلى إعادة نظر، وربما تحتاج دول الخليج إلى بناء مزيد من المصافي بهدف التصدير، وسياسات الدول الغربية تجاه الصين ستؤدي إلى نتائج عكسية.