الشعوب والحروب: سائق تاكسي بالسفلى والعيد الوطني الإسباني
الغرب في غالبه اليوم يتنكر للقيم الليبرالية ويسلح إسرائيل ويؤيد مذابحها بيد أن إسبانيا من أشد المناصرين للحق الفلسطيني
كتب سعد بن طفلة العجمي, في “اندبندنت عربية” :
الموتورون والمؤدلجون والغيبيون والمختلون عقلياً والمتعطشون للدماء يجرون الشعوب للحروب، ويعبئونهم منذ الطفولة على كره الآخر المختلف عنهم، ويجندون قلة منهم لشن الحروب وارتكاب الفظائع التي يندى لها جبين الإنسانية.
أبيض اللون، أشقر الشعر، بعيون زرقاء، ركبت معه التاكسي في مدينة إشبيلية الإسبانية بالأندلس، والتي أتى اسمها من الفينيقية بمعنى “المنطقة أو المدينة السفلية”، والفينيقية لغة سامية من أخوات العربية لغوياً، واحتفظت المدينة باسمها الأصلي تقريباً بالإسبانية إذ تسمى “سفيل”، بينما تعرضت لتغيرات صوتية كبيرة بالعربية (إشبيلية)، ولاحظت أن السائق يعلق ميدالية على مرآة السائق عليها لفظ الجلالة “الله”، سألته بإسبانيتي المكسرة لأنه لا يتكلم غيرها:
كثر من أهل الأندلس أعلنوا تحولهم للمسيحية جبراً خوفاً من القتل أثناء محاكم التفتيش بعد زوال حكم العرب المسلمين من الأندلس عام 1492، لكنهم مارسوا تقية استمرت مئات السنين واحتفظوا بإسلامهم حتى جاءت العلمانية والليبرالية الديمقراطية بعد سقوط الفرانكوية بوفاة فرانكو عام 1975 وصدور الدستور العلماني عام 1978 والذي سمح بحرية العبادة للمسلمين ولغيرهم من أصحاب الأديان والمعتقدات الأخرى، فبدأ مسلمو الأندلس إشهار إسلامهم الذي حافظوا عليه تقية خمسة قرون.
معروف أن محاكم التفتيش اشتهرت في عهد الملك فيرناندو الثاني وزوجته إيزابيلا الأولى، واستهدفت بالدرجة الأولى طرد العرب والمسلمين من الأندلس بعد السيطرة عليها من أجل توحيد مملكة إسبانيا، فاضطر كثير من المسلمين للتحول للمسيحية قسراً بينما كان هناك من تحول طوعاً، وكان المتحولون طوعاً أشد قسوة على المسلمين من المسيحيين الأوروبيين.
مر قبل أيام العيد الوطني الإسباني والذي يسمى كذلك بيوم التراث الإسباني (DIA DE HISPANIDAD) ويصادف الـ12 من أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، إحياء لذكرى وصول كريستوفر كولومبس للعالم الجديد، الأميركتين.
تقول كتب التاريخ إن كريستوفر كولومبس وصل عام 1492 وهو العام نفسه الذي سقطت به آخر ممالك العرب غرناطة، ويسمى التراث العربي “سقوط الأندلس” لكن الأدبيات الإسبانية والغربية عموماً تسميه تحرير أو استعادة أيبيريا.
وصل كولومبوس إلى جزر هايتي وجمهورية الدومينيكان اليوم والتي سميت في البداية بجزر “إسبانيولا”، وكان يقطن تلك الجزر 8 ملايين من سكانها الأصليين وخلال أقل من نصف قرن ماتوا جميعاً، أكثرهم مات بالأمراض الجديدة التي جلبها الأوروبيون معهم ولكن جزءاً كبيراً منهم قتلهم كريستوفر كولومبوس وجنوده، جروا الرضع من أثداء أمهاتهم وسحقوا رؤوس الأطفال بالحجارة وقطعوا أيدي من لم يأتهم من الرجال بالذهب والفضة، بل وبقروا بطونهم وعلقوهم على الصلبان كما المسيح، حسب معتقدهم.
قرى بأكملها سحقت وحرقت عن بكرة أبيها وكانت تلك الفظائع التي بدأها كريستوفر كولومبوس هي النهج الذي سار عليه بقية الأوروبيين الذين وصلوا إلى الأميركتين الشمالية والجنوبية، إذ ارتكبوا مجازر ضد السكان الأصليين لمحوهم.
وتشير التقديرات إلى أن عدد السكان الأصليين كان 100 مليون إنسان قتلوا جميعاً، ولم يبق منهم بنهاية القرن الـ19 سوى مليون شخص تقريباً.
وتعد إسبانيا من أكثر دول العالم استقبالاً للسياح وشعبها مضياف ومتسامح ولديهم روح استقبال وقبول للآخر، وأصبحت هذه الروح المتسامحة نادرة في أوروبا اليوم مع الميول اليمينية والعنصرية التي تجتاحها.
وفي إسبانيا وبخاصة داخل الجنوب الأندلسي حيث جرت معظم محاكم التفتيش المفزعة تجد شعباً لطيفاً هادئاً متسامحاً، لا يميز بتعامله مع الآخر مهما كان لونه أو دينه أو عرقه.
تساءل الواحد، أيعقل أن يكون هؤلاء هم أحفاد من ارتكبوا محاكم التفتيش؟ هل هؤلاء هم أحفاد من ارتكب الشنائع والفظائع في أميركا اللاتينية؟ هل يعقل أن يكونوا حقاً من صلب أولئك القتلة المتعطشين للدماء؟ هل استُبدلت الشعوب المسالمة اليوم بهم؟ أم هل ظلم التاريخ أجدادهم وشوه صورتهم؟
الوقائع والدلائل تنفي احتمالية تزوير التاريخ، فهذا التاريخ كتبه الأوروبيون أنفسهم، أي ليس بدعاية مغرضة ولا مؤامرة “إمبريالية” لتشويه صورة أجدادهم، وليست “بإسرائيليات” موضوعة لتشويه الكاثوليكية.
ويدرك المتفحص أن الحروب تشنها مجموعات دموية متعصبة وموتورة وأن الشعوب في غالبها لم تشارك بها، وأن هذه المجاميع يمكن أن تكون من خلفيات مختلفة، فكولومبوس نفسه كان إيطالي الأصل على الأرجح وجنوده لم يتجاوز عددهم 1500 جندي، أي أن ملايين الإسبان لم يشتركوا في ارتكاب تلك الشنائع الفظيعة ضد السكان الأصليين بالأميركتين.
كيف شاعت هذه الروح المتسامحة بين الإسبان الذين تنافسوا مع روما في التعصب والكره والفوقية “والنقاوة” الكاثوليكية الدينية “الورعة” الحقيقية؟ أهو التعليم؟ أهي المناهج التعليمية؟ أهي العلمانية وقيمها المنادية بالمساواة والعدالة بين الناس؟ أهي الليبرالية الغربية الديمقراطية؟ لكن الغرب في غالبه اليوم يتنكر لهذه القيم الليبرالية وهو يتفرج، بل ويسلح إسرائيل ويؤيد مذابحها في غزة ولبنان، بيد أن إسبانيا اليوم حكومة وشعباً من أشد المناصرين للحق الفلسطيني واعترفوا بالدولة الفلسطينية على رغم أنهم “حديثو عهد” بالليبرالية الديمقراطية الغربية (1978).
لعل الإجابة عن التساؤلات أعلاه تكمن في أبجديات الإيمان بالإنسان، والإيمان بحب الشعوب البديهي للسلام والعيش المشترك، لكن الموتورين والمؤدلجين والغيبيين والمختلين عقلياً والمتعطشين للدماء يجرون الشعوب للحروب، ويعبئونهم منذ الطفولة على كره الآخر المختلف عنهم، ويجندون قلة منهم لشن الحروب وارتكاب الفظائع التي يندى لها جبين الإنسانية.