كتب مدى الفاتح في صحيفة العربي الجديد.
الضربات المتبادلة، ومحاولة إحداث أكبر قدر من الضرر ما بين المحورين الإيراني والإسرائيلي الأميركي لم تكد تتوقّف منذ أواخر القرن الماضي. كثيراً ما يلفت مناقشون للموضوع إلى أنّ هذه الضربات اشتركت في أنّها لا تتوجّه مباشرةً إلى العمق الإيراني، ولا إلى أيّ مناطق حيوية إسرائيلية، وهو ما كان يطلق عليه أصحاب هذه الملاحظة احترام “قواعد الاشتباك”.
صحيحٌ أنّ هذا الاحترام لتلك القواعد، خشية الانزلاق نحو ما لا يمكن السيطرة عليه، كان السمةَ الغالبةَ للوضع في المنطقة، إلّا أنّ ذلك لم يمنع أن يتجاوز الطرفان هذه القواعد بين حين وآخر. لعلّ أشهر الحوادث التاريخية في هذا السياق الهجوم على السفارة الإسرائيلية، وعلى مبانٍ أخرى تابعة للكيان، في الأرجنتين في بداية التسعينيّات. من ذلك أيضاً ما حدث من استهداف سيّاح إسرائيليين في 18 يوليو/ تمّوز 2012، وهي الحادثة التي نتج عنها مقتل عدة أشخاص إثر هجوم على حافلة في مدينة بورغاس البلغارية. على الرغم من أنّ إيران وذراعها حزب الله لم يعترفا بالضلوع فيها وقتها، إلّا أنّ أصابع الاتهام ظلّت موجَّهة نحوهما. لن نجد حالات كثيرة للإقرار بالتورط وبالمسؤولية عن الحوادث، خاصّة التي تكون صادمةً ومتجاوزةً للأهداف العسكرية، فعلى الرغم من وجود أدلّة وبصمات كافية لإدانة الطرف المتورّط في كلّ حادثة، إلّا أنّه كان هناك ما يشبه الاتفاق على عدم الاعتراف بالضلوع في أيّ عمل.
كانت في مقابل هاتين العمليتين الشهيرتين عشرات العمليات والهجمات الإسرائيلية، التي استهدفت علماءَ وقادةً عسكريين ومواقع نووية إيرانية. وكان واقع الحال يُؤكّد أنّ الحلف الإيراني هو المعني أكثر من أيّ طرف آخر بحساسية قواعد الاشتباك، فيما يستند الكيان إلى عدم قدرة أو رغبة إيران وأذرعها في الدخول في مواجهة بلا سقف.
حتّى مسألة الأذرع الكثيرة والموزّعة بين أكثر من بلد يمكن النظر إليها حيلةً إيرانيةً للتنصّل من المسؤولية والتهرّب من العقوبات، عبر الإيحاء بأنّ تلك الجماعات، وإن تلقّت من طهران بعض الدعم والتعاطف، إلّا أنّها تتصرّف بشكل مُنفَرد.
على الشامتين بحزب الله أن يدركوا أنّ بُعدهم جغرافياً لا يعني بُعدهم عن التهديد
هناك قواعد للاشتباك وأسقف تراعيها الأطراف المختلفة من أجل منع التوتّرات من الخروج عن السيطرة، لكن ما يمكن أن نستنتجه هو أنّ لكلّ طرف تفسيره وحدوده، التي يضعها حينما يتعلّق الأمر بالعمليات الأمنية وبالردود عليها، ففيما وصل الأمر بالكيان إلى القيام بعمليات تخريب موجّهة للبنية النووية الإيرانية، تطلق “عاصمة المقاومة”، في آخر مراحل ردّها القاسي، حزمة من الصواريخ، بتنسيق دولي، وبضمان ألا ينتج عن ذلك أيّ خسائر.
كانت عملية 7 أكتوبر (2023) مهمّةً في هذا السياق، فعلى الرغم من عدم وجود دلائلَ على أنّها كانت بتخطيطٍ وبرعايةٍ إيرانيين، إلّا أنّ تصنيف حركة حماس جزءاً من المحور الإيراني كان مفيداً. كان في ذلك الانتساب ردّ من جهة على من يقول إنّ هذا المحور غير جادٍّ في القيام بضربات موجعة خشية التصعيد، كما كان ذلك فيه فرصة للتهرب، على اعتبار أنّه لا سلطةَ لطهران على الحركة “السنّية”. اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة، خلال زيارته طهران، كان يمثّل تلاعباً جديداً بقواعد الاشتباك. أرسلت تلّ أبيب بواسطة تلك العملية رسالة إلى “حماس” مفادها عدم التفريق بين القادة السياسيين والعسكرين، فالجميع في دائرة الاستهداف بوصفهم “إرهابيين”، كما أرسلت رسالةَ استخفاف بإيران التي وقع الاغتيال في أراضيها، وخلال مراسم تنصيب الرئيس الجديد، التي كان الجميع يظنّ أنّها عالية التأمين.
اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة، خلال زيارته طهران، كان يمثّل تلاعباً جديداً بقواعد الاشتباك
في الأسبوع الماضي، انشغل الجميع بحادثة تفجير آلاف من أجهزة “البيجر”، وأجهزة الاتصال اللاسلكية، في لبنان، وهي الأجهزة التي كان يستخدمها عناصر الحزب لأنّها أكثر أماناً مقارنة بالهواتف النقّالة. في خطابه، الذي علّق فيه على الحادثة، قال أمين عام الحزب حسن نصر الله إنّه يتمنّى أن يُنفّذ الإسرائيليون تهديداتهم، وأن يتوغّلوا داخل الحدود اللبنانية. ويبدو أنّ الرجل لم يكن قد حلَّل وقتها تلك العملية جيّداً، لأنّ من أكثر ما أثبتته أهمّية، إلى جانب القدرة الفائقة على الاختراق الأمني والتحايل، أنّ الحرب المُنتظَرة ليس بالضرورة أن تكون تقليديةً يتواجه فيها المقاتلون والجيوش، ولا حتّى مُجرَّد حرب قصف بالطائرات أو بالصواريخ التي تستهدف شخصياتٍ محورية، كما يحدث اليوم، بل قد تكون حرباً عن بعد، على غرار عملية “البيجر”، التي أصابت وكشفت، بشكل غير مسبوق، مئات من العناصر والعملاء المقرّبين من قيادة الحزب، الذي عليه أن يبحث عن وسيلة آمنة أخرى للتواصل.
إذا نظرنا إلى الأمر بصورة أوسع سنشعر بالقلق، لأنّ عملية “البيجر” تدقّ ناقوس خطر يتجاوز أثره وحدوده الأزمة الحالية. لا ينحصر هذا الخطر في جهة من دون أخرى، بل يُهدّد معظم دول المنطقة التي لا يقلّ انكشافها الأمني عن انكشاف الحزب اللبناني. تلك الدول، التي لا تملك سلاحها ولا تتحكّم بتأمين نفسها، لا يحتاج أعداؤها من أجل إحكام السيطرة عليها إلى غزو تقليدي، بل قد يكتفون بضغطة زرّ لصنع تخريب ودمار وتفجيرات في مساحات واسعة. هذه هي النقطة الأهم، التي تستحقّ أن يوليها الجميع الاهتمام، بما في ذلك المُعترِضون أو المُعادون لحزب الله أو للمحور الإيراني، والذين حجبت الشماتة عنهم الإحساس بأنّهم، ومهما كانوا بعيدين في الجغرافيا، فإنّهم ليسوا بعيدين عن التهديد.
السؤال، الذي يجب أن يُطرح: هل ما زالت هناك قواعد للاشتباك، أم أنّ تفجيرات “البيجر” فجّرت معها كلّ شيء، بما يجعلنا ندخل مرحلةً لم نعتدها من الفوضى الأمنية؟