الشرق الأوسط المحير!
كتب نبيل فهمي في إندبندنت.
يمر الشرق الأوسط حالياً بمرحلة إعادة تشكيل لأسباب متعددة، ويشهد العديد من المؤشرات المقلقة، وفي نفس الوقت الكثير من الدلالات الإيجابية. تناقضات فرقت المراقبين وحيرتهم بين التشاؤم المبالغ فيه والتفاؤل المفرط في سياق من الاضطرابات والتغيرات الدولية المؤسسية دفعتني لوصفها بأنها “عاصفة مكتملة”.
ومن أهم سمات الشرق الأوسط الآن وما يؤكد أنها في مرحلة تحول وتغيير أن أكثر من 65 في المئة من مواطنيها من الشباب، الذين لا يتجاوز عمرهم الـ30 عاماً، ومهما كانت صلابة وعمق جذورهم الوطنية والإقليمية فتجاربهم وشخصياتهم تم تشكيلها وارتبطت بأحداث العقود الثلاثة الماضية، التي لم تكن في مصلحة العالم العربي عامة أو الدول العربية الاستراتيجية التقليدية بشكل خاص، وهؤلاء الشباب الذين يشكلون الغالبية ترعرعوا في ظل نظام دولي مضطرب وغير مستقر بين هيمنة القطبين أو القطب الأوحد أو التعددية الدولية.
لم يشهد هؤلاء عملية سلام عربية – إسرائيلية جادة، وتابعوا تعدد الانفلاتات والنزاعات في ليبيا والسودان وسوريا والعراق واليمن وانتشار الإرهاب والتطرف، وتحول النزاعات بين الدول إلى حروب أهلية وتصدع مجتمعي وطائفي. فضلاً عن إحباط عام من فشل جهود الإصلاح العربي وتنامي الضغوط الاقتصادية لاعتبارات بعضها خارجي وأغلبها إقليمية ومحلية.
أي أن غالبية شعوب المنطقة شكلت شخصيتها خلال مرحلة دولية وإقليمية مضطربة وبائسة، بل عاصرت تطورات عالمية علمية وتكنولوجية تاريخية هائلة، وضعت قدرات وإمكانيات فريدة أمامهم، بما في ذلك قدرات حسابية واتصالات في متناول أيديهم عبر أجهزة المحمول تفوق القدرات الحسابية للصواريخ الأولى التي أطلقت إلى القمر، وهو ما خلق لديهم شعوراً بالثقة في النفس، متطلعين إلى الإسهام في اتخاذ القرارات وتحديد الطريق، واهتماماً بالإنجاز السريع، ومن هنا تجاوزت طموحات الكثير منهم نظائرها التقليدية لشعوب المنطقة.
هذا التباين من أسباب الحيرة السائدة في المنطقة بين المتشائمين القلقين من الاضطرابات الإقليمية، المتخفين من أنهم لن يستطيعوا مواكبة قطار التطور نحو مستقبل أفضل، وبين الأكثر ثقة في أنهم يستطيعون تحريك الدفة وفتح الطريق إلى الأمام ويستعجلون التحرك والإنجاز السريع.
وأنظر بإيجابية للتركيبة الديموغرافية الشبابية العربية والمصرية، وكذلك إلى انخفاض متوسط سن القادة السياسيين في الشرق الأوسط كثيراً خلال العقدين الماضيين، وإن كان يعيب على المنطقة غياب القادة السياسيين من النساء، وينطبق الشيء نفسه بالنسبة للقطاع الاقتصادي الذي ظهرت فيه قيادات شابة عديدة شهد نسبة متنامية بل ضعيفة من النساء.
وإيجاباً شهدنا خلال الأشهر الأخيرة تقدماً وتطورات إقليمية عدة، أغلبها على أثر جهود إقليمية ذاتية في الأساس منها وقف إطلاق النار في اليمن، وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، والاتفاق السعودي الإيراني، وبوادر الإيجابية في العلاقات المصرية التركية ومع إيران، وتطورات إيجابية في العراق، وقمم عربية متميزة مع الصين وأميركا وغير ذلك، وأحاديث متكررة عن تطورات اقتصادية واجتماعية متميزة في عدد من الدول العربية خصوصاً السعودية، واستضافة مصر والإمارات للقمم المناخية المتتالية 27 و28، واشتراك السعودية والإمارات في برامج فضائية. كلها أسباب ومصادر التفاؤل في الشرق الأوسط والعالم العربي.
سلبياً نجد أيضاً مؤشرات سياسية واقتصادية عديدة ومتنوعة تغذي الشعور بالقلق بل حتى التشاؤم، ولا تزال إسرائيل تضرب بعرض الحائط بالقانون الدولي والإنساني وتقضي على فرص حل الدولتين، وتشعل فتيل العنصرية والاضطهاد وتدنيس المسجد الأقصى بالقدس، ولا تزال الأوضاع في ليبيا غير مستقرة، واندلعت المعارك في السودان في وقت كنا نتوقع تنفيذ الأطراف الإقليمية للاتفاق الإطاري المقدم من المبعوث الأممي.
وهناك قضايا عالقة عديدة بين إيران وكل من السعودية والبحرين والإمارات، والمشكلات الحدودية التركية مع سوريا والعراق أيضاً ما زالت كذلك، فضلاً عن مشكلات اللاجئين والنازحين والفقر المائي. وهناك انتشار استثنائي وفريد للتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية غير الخاضعة للتفتيش الدولي، وأسئلة تحتاج للتوضيح بالنسبة للبرنامج النووي الإيراني، كما أن هناك بؤراً إرهابية عالقة تحتاج البتر للخطر ومعالجة للمصادر.
إذن الحيرة مبررة، ويسأل البعض هل نتفاءل أم نتشاءم؟ وإجابتي الصريحة والواضحة أن الأطراف العربية ليست لديها رفاهية الاختيار بين التفاؤل والتشاؤم، وعلينا توظيف واستثمار الإيجابيات والتصدي للتحديات والتغلب على السلبيات.
والسؤال الآخر والمتكرر هو من يقود العالم العربي مع اتساع الجدل بين الدور الريادي للدول العربية القديمة مثل مصر والجزائر وسوريا، والدور المتنامي للدول الخليجية، قطر والإمارات والسعودية، خصوصاً بالنسبة للمملكة بعد إنجازاتها الدبلوماسية المتكررة الأخيرة ورئاستها للقمة العربية.
في الحقيقة لا أرى أهمية وجدوى للسؤال، فمن المنطقي أن تكون للجزائر والمغرب الريادة في المغرب العربي، ومصر في شمال أفريقيا وجنوب شرق البحر المتوسط وشرق أفريقيا، امتداداً إلى المشرق باعتبارها دولة أفريقية آسيوية، فضلاً عن عمقها العربي. والسعودية ودول خليجية في الخليج. وأن تكون الريادة شمالاً لسوريا والعراق. وعلى الكل المبادرة والعمل الدؤوب والتكاتف.
وأتوقع أن نشهد في المرحلة المقبلة الريادة التعددية والمتنوعة بحسب المنطقة الجغرافية، وقد يختلف ذلك بين مجال وآخر، فهناك قيادات عسكرية وأمنية وريادات اقتصادية واجتماعية وثقافية متعددة ومختلفة.
وقناعتي أن علينا تجاوز مسألة الريادة من عدمه، وسيكون علينا في المقام الأول استثمار ما يجمعنا عربياً، خصوصاً في تعاملنا مع الدول غير العربية بالمنطقة، وكذلك لتحقيق توازن دقيق عالمياً بين الحفاظ على أصدقاء دوليين خلال العقود الماضية وتوسيع الصداقات مع الآخرين، مع تجنيب المنطقة ويلات أن تكون ساحة للحرب الباردة بخاصة مع التنافس المتوقع بين الولايات المتحدة والصين.
وعلينا بدء التخطيط لأفضل سبل بلورة البناء التدريجي لآليات التعامل مع التحديات الأمنية للشرق الأوسط في المستقبل من خلال محور حل المنازعات، فلا يوجد استقرار للعلاقات أو تخطيط استراتيجي للازدهار والتنمية المستدامة في ظل تعدد النزاعات السياسية واستخدام العنف، ويشمل محور آخر لإدارة الأزمات، والمقصود هنا الأزمات الطارئة التي تظهر بين الحين والآخر.
إضافة إلى محور ثالث لإجراءات بناء الثقة المكملة والمشجعة لمحور رابع لحل المنازعات، ووعدي أن يشمل هذا الجهد أيضاً محوراً خامساً لنزع السلاح والأمن الإقليمي الذي يحقق الاستقرار الأمني الحقيقي، وعلى أن يستكمل ذلك بمحور سادس للتعاون الإقليمي الذي يساعد على بناء المستقبل.
وعلينا عربياً وشرق أوسطياً تعظيم تكاملنا الاقتصادي كلما أمكن لزيادة ثقل المنطقة كساحة اقتصادية منتجة وسوقاً باذخة في ظل تنامي المنافسات المستقبلية غرباً وشرقاً، بما في ذلك تأمين السلسلة الإنتاجية ورصيد استراتيجي للسلع ومكونات الإنتاج بمنظور إقليمي وليس وطني منفرد، كما من الأهمية بمكان جذب التكنولوجيا المتقدمة والتوسع في الخدمات اللوجستية الدولية للاستفادة من موقع العالم العربي المتميز عبر البحار والقارات.
علينا شرق أوسطياً وبخاصة في العالم العربي مراجعة وتطوير معادلتنا المجتمعية إقليمياً ووطنياً تحقيقاً للمساواة في الفرص لكل مجتهد، وتحصيناً لحقوق المجتمع والفرد، ومتجاوزين الفوارق الضخمة بين طبقات وفئات المجتمع، وتأميناً للهوية والدولة الوطنية الجامعة. لدي قناعة تامة أن نجاحنا في ذلك يسهم في تعزيز مكانة الهوية العربية في عالمنا العربي استناداً إلى الثوابت التاريخية والثقافية وحجم المصالح والتطلعات المشتركة بين شعوبنا.