السياسة الخارجية الألمانية: لا شيء سيبقى كما هو

كتب ينس توراو, في “DW” :
على الحكومة الألمانية القادمة تحديد أولويات جديدة في سياستها الخارجية دون إيطاء، وذلك بعيدًا عن الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية، فهل يصبح مثل هذا التحول أمراً واقعاً؟
يمكن القول إنَّ الحكومة الألمانية الجديدة ستواجه بعد الانتخاباتالجديدة تحديات كبيرة على مستوى السياسة الخارجية. وفي هذا الصدد يدور الحديث حول بداية عصر جديد، وحول إعادة توجيه في كثير من المجالات – أو في جميعها تقريبًا. أو بعبارة أخرى: حول وداع ألمانيا النهائي لدورها المريح كدولة قوية اقتصاديًا ولكنها خجولة من الناحية الجيوسياسية.
لعقود من الزمن بعد الحرب العالمية الثانية، كان بإمكان وزراء الخارجية الألمان أن يفترضوا أنَّهم يشغلون منصبًا جذابًا: فألمانيا المرتبطة ارتباطًا ثابتًا بالغرب، أصبحت مدافعة عن التعددية والديمقراطية وسيادة القانون. والقرارات الحساسة في السياسة الخارجية كانت تُتَّخذ بالتعاون مع دول غربية صديقة، بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولة عن أمن ألمانيا.
الولايات المتحدة لم تعد تريد ضمان أمن ألمانيا
والآن؟. أعلن نائب الرئيس الأميركي الجديد جي دي فانسفي مؤتمر ميونيخ للأمن أنَّ أوروبا يجب أن تتحمل تكاليف دفاعها وتتولى المسؤولية. وردًا على ذلك أبدى المستشار الألماني الجديد المحتمل، زعيم الحزب المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس، انزعاجه في حوار مع DW: “لدينا هنا تاريخ فاصل: الولايات المتحدة الأمريكية تشكك في ضماناتها الأمنية لأوروبا، والأميركيون يشككون في المؤسسات الديمقراطية”.
وهذا كله يحدث بوتيرة سريعة. ويرى خبير الشؤون الخارجية في الكتلة البرلمانية للحزب المسيحي الديمقراطي، رودريش كيزيفيتر أنَّ ألمانيا باتت تقف عند مفترق طرق. ويقول إنَّ جمهورية ألمانيا الاتحادية يجب أن تعي أنَّ طبيعتها الديمقراطية والدستورية تتعرض لتهديدات متزايدة. فالصين مثلًا تفعل حاليًا كل ما في وسعها من أجل توسيع نفوذها وزيادة الاعتماد عليها في دول ديمقراطية مثل ألمانيا.
كيزيفيتر: دعونا ننهي سذاجتنا تجاه الصين
وفي حوار مع DW، دعا رودريش كيزيفيتر إلى اتباع ألمانيا سياسة تركز على مصالحها السياسية والاقتصادية الخاصة: “وعدا ذلك فإنَّ التداعيات الاقتصادية ستكون هائلة وسيفقد حلف الناتو تأثيره الرادع. ولكن من أجل تحقيق هذه الغاية، لا بد من إعادة توجيه استراتيجي وسياسي واضح في السياسة الخارجية والأمنية، فالتفكير الاسترضائي القديم والسذاجة تجاه الصين غير مناسبين لذلك، بل يقودان إلى نتائج عكسية”، حسب كيزيفيتر.
قوات حفظ سلام ألمانية في أوكرانيا؟
لا شيء يبقى كما كان حتى في موضوع السياسة السائدة تجاه كييف حاليًا. وبعد الحرب العدوانية الروسية ضد أوكرانيا في ربيع عام 2022، كانت ألمانيا الداعم الأكبر لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة الأمريكية – وذلك عسكريًا وعلى صعيد استقبال اللاجئين. والآن يلوح في الأفق اتفاق لإنهاء الحرب، وعلى الأرجح أن يتم التفاوض عليه بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا فقط. أما ألمانيا والدول الأخرى، الأوروبية في المقام الأول، فستكون مسؤولة عن تأمين مثل هذا الاتفاق بجنودها، لأنَّ الرئيس الأمريكي ترامب أعلن أنه لا يريد القيام بذلك على أية حال.
في ألمانيا أغلبية ضئيلة تؤيد قوات لحفظ السلام
ويبدو من غير الواضح إن كان ذلك قابلًا للتطبيق من وجهة نظر المواطنين الألمان: ففي استطلاع أجراه معهد أبحاث الرأي العام “فورسا”، أعرب 49 بالمائة عن تأييدهم لمثل هذه المهمة، التي عارضها 44 بالمائة. ولا يبقى للمستشار الحالي أولاف شولتس (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) إلا الإشارة إلى موقف قديم، ولكن بالكاد يمكنه فرضه. فقد قال في القناة الألمانية التلفزيونية الأولى “ARD”: “نرحِّب بوجود محادثات حول التوصل لسلام، ولكن من الواضح لنا أنَّ هذا لا يعني إمكانية وجود سلام مفروض وأنَّ على أوكرانيا تقبُّل ما يقدم لها”.
تعزيز قوة الجيش الألماني بشكل هائل
ولكن هذا بالذات يمكن أن يحدث اشياء معينة. وعلى أية حال، يجب على ألمانيا أن تركز على قدراتها الدفاعية الفعالة، ومن الأفضل أن تفعل ذلك بالتعاون مع الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي. وقد قدَّر النائب في البرلمان الألماني عن حزب الخضر، توني هوفرايتر المتطلبات المالية لفعل ذلك بنحو 500 مليار يورو، وهو مبلغ مذهل.
ولذلك يجب على ألمانيا – كما يقول أيضًا فريدريش ميرتس، مرشح تحالف الحزبين المسيحيين، المسيحي الدميقراطي والمسيحي الاجتماعي البافاري لمنصب المستشار – أن تأخذ زمام المبادرة في أوروبا. وفي هذا الصدد قال ميرتس لـDW: “جميعهم [الأوروبيين] ينتظرون من ألمانيا أن تتولى مسؤولية قيادية أقوى. لقد نوّهت مرارًا وتكرارًا إلى ذلك. فألمانيا تعد إلى حد ما الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في أوروبا. وألمانيا تقع في المركز الجيواستراتيجي للقارة الأوروبية. ويجب علينا أن نؤدي هذا الدور”.
ويُعد تسليح ألمانيا بالنسبة لميرتس مهم ليس نظرًا إلى أوكرانيا وحسب: “هذا ليس بسبب أوكرانيا فقط: بل بسبب السلام في أوروبا على ضوء عدوان روسي يصل إلينا كل يوم هنا في ألمانيا أيضًا. مع تعريض بنيتنا التحتية للخطر، ومع تعريض شبكات بياناتنا للخطر، ومع تعريض كابلات البيانات الممتدة عبر بحر البلطيق للخطر”.
بقاء المصلحة الوطنية من أجل إسرائيل
وفي المقابل يبقى التأثير الألماني في موضوع الشرق الأوسط كما كان في الماضي: ضئيلًا إلى حد ما. وكذلك ستلتزم الحكومة المستقبلية بمبدأ “المصلحة الوطنية”، أي الدفاع بحزم وثبات عن حق إسرائيل في الوجود. ومواصلة العمل من أجل “حل الدولتين” – دولة إسرائيلية وأخرى فلسطينية. حتى وإن أصبح هذا الحل أقل احتمالًا من قبل.
مضاعفة ميزانيات الدفاع بعد عام 2028؟
والآن ماذا يعني كل ذلك عمليًا؟. على الأرجح أن يكون في مركز الاهتمام تعزيز قدرة ألمانيا الدفاعية، وهو الأمر الذي بدأ تنفيذه وزير الدفاع الحالي بوريس بيستوريوس (من الحزب الاشتراكي الديمقراطي) في تشرين الأول/أكتوبر 2023 من خلال صيغة “القدرة على خوض الحرب”. فمنذ صيف عام 2022 يوجد في ألمانيا صندوق ثروة خاصة (مموَّل بديون جديدة) تبلغ قيمته نحو 100 مليار يورو من أجل تسليح الجيش الألماني، ولكنه سيكون قد استنفذ بحلول عام 2028.
وحينئذٍ من الممكن أن يرتفع حجم النفقات العسكرية ارتفاعًا كبيرًا من نحو 50 مليار يورو في العام إلى 80 أو حتى 90 مليار يورو سنويا. وحاليًا يشكل السؤال إن كان هذا المال سيتم جمعه من خلال المزيد من الديون الجديدة أو من خلال خفض الميزانية في أماكن أخرى موضع نقاش ساخن في الحملة الانتخابية. ولكن هذه الزيادة الكبير بحسب رأي رودريش كيزيفيتر تعتبر وجودية من أجل الحكومة المستقبلية. وذلك لأنَّ ألمانيا لن تعد تُعامل بجدية في واشنطن من دون تسليح قوي، بحسب كيزيفيتر: “هذا سيعني من الناحية الجيواقتصادية فيما يتعلق بالشراكة المستقبلية عبر الأطلسي أنَّ على أوروبا أن تقدم على الأقل هذه المساهمة كحد أدنى للحفاظ على الولايات المتحدة الأمريكية كشريك قوي في أوروبا وفي حلف الناتو”.
شركاء جدد: السعودية ودول أمريكا الجنوبية؟
ولهذا السبب أيضًا ظهرت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك (من حزب الخضر) شبه يائسة على القناة الألمانية التلفزيونية الثانية (ZDF) أثناء دعوتها مرارًا وتكرارًا إلى تعاون أوروبا المشترك كرد على جميع التغيرات في العالم: “نحن [سكان أوروبا] 450 مليون نسمة. ولدينا أكبر سوق داخلية مشتركة في العالم. لقد عقدنا شراكات جديدة. ويجب علينا الآن أن نستغل كل ذلك معًا وألا نضيع في التفاصيل الدقيقة”.
ومن هذه الشراكات الجديدة مثلًا الاتفاقيات مع دول الخليج العربية، أو اتفاقية الشراكة مع دول رابطة ميركوسور المؤلفة من الأرجنتين والبرازيل وباراغواي وأوروغواي. والخلاصة: يجب على ألمانيا أن تحرر نفسها من الارتباط بالولايات المتحدة الأمريكية والاعتماد عليها، وأن تتولى مسؤولية الدفاع عن نفسها، وأن تبادر إلى ممارسة سياسة المصالح تجاه الصين. وهذا يبدو عملًا جريئًا، لأنَّ ألمانيا باتت تقف عند بداية تغييرات مذهلة في سياستها الخارجية.