السودان ورهانات الحرب والسلم

كتب بشار نرش, في صحيفة العربي الجديد:
بعد التقدّم الكبير الذي حقّقه الجيش السوداني، بقيادة الجنرال عبد الفتّاح البرهان، على قوات الدعم السريع، وتمكّنه من استعادة السيطرة على الحدود الإدارية للعاصمة الخرطوم كاملة، بمدنها الثلاث (الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري)، يبدو أنّ رهانات الحرب التي كان يُعوِّل عليها قائد قوات الدعم السريع، الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والدول الداعمة له، كانت خاسرة، ليس عسكرياً فحسب، وإنّما سياسياً أيضاً، فالانتصارات الكبيرة التي حقّقها الجيش السوداني في الآونة الماضية، في مقابل تقهقر سريع وواضح لقوات الدعم السريع، تقود إلى استنتاجاتٍ مهمّة يمكن البناء عليها فيما يتعلّق برهانات الحرب والسلم، في هذا البلد المثقل بانعكاسات التشقّق والشقاق.
سيفرض هذا التحوّل في مسرح العمليات تداعيات استراتيجية على مسار الحرب ومستقبل السودان ككل، فتمكُّن الجيش من ترسيخ أقدامه في أكثر من ثلثي البلاد، لتشمل مناطق شمال ووسط وشرق السودان كاملة، وحصر سيطرة قوات الدعم السريع في غرب وجنوب السودان، وتحديداً في غالب ولايات دارفور، ومناطق متفرّقة من ولايات النيل الأبيض شمالي كردفان، وغالبية ولاية غرب كردفان، يعني تحويل الصراع نحو إقليم دارفور، الذي عاد إلى دائرة الاهتمام، ما يُعيد إلى الأذهان صراعات الإقليم السابقة، ويفتح الباب أمام احتمالات تدويل النزاع، خاصة مع تعقّد الأوضاع الإنسانية، ووجود عوامل إقليمية ودولية متشابكة.
تعدّد الحسابات والمسارات وتضاربها، وصراع الأجندات الإقليمية والدولية، من العوامل الأكثر تشويشاً لجهود رهانات السلم في السودان
في ظلّ هذا الواقع، تنحصر خيارات “الدعم السريع” في مسارَين رئيسَين: الأول عسكري يتمثّل في استمرار المعركة في أهم منطقتين في غرب السودان، كردفان، مكان تمركز الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، وإقليم دارفور، بعد السيطرة على مدينة الفاشر لبسط السيطرة الكاملة على إقليم دارفور، تمهيداً لإعلان الحكومة الموازية فيه. الثاني، سياسي، إذ تسعى قوات الدعم السريع، مدعومة من بعض الحلفاء، إلى تسريع الإعلان عن الحكومة الموازية في إقليم دارفور، وبذلك يكون المهدّد الأكبر الذي يلوح في الأفق في الفترة المقبلة فقدان السودان وحدته وتماسكه، وللسودان في هذا الأمر تجربة من قبل، فحروب السودان في جنوبه قادت، في نهاية المطاف، إلى انقسامه بين بلدين، ومؤشّرات التقسيم الآن واضحة، مع سير الطرفَين في تشكيل هياكل سلطة في مناطق سيطرتهما.
وعليه، يمكن القول إنّ رهانات الحرب والسلم في السودان لن تخرج عن ثلاثة سيناريوهات: أوّلها الانتصار الكامل والحاسم لأحد طرفي الصراع على الآخر، وفرض شروطه وأجندته عليه، وهو أمر يبدو صعب التحقّق، فلا الجيش قادر على السيطرة على دارفور، نظراً إلى طبيعة الإقليم الجغرافية المعقدة، وشبكة التحالفات القبلية والإقليمية لقوات الدعم السريع في الإقليم، واعتماد هذه القوات على تكتيكات حرب العصابات. ولا قوات الدعم السريع قادرة على هزيمة الجيش السوداني الذي عزّز سيطرته في الفترات الماضية على حساب قوات الدعم السريع.
السيناريو الثاني، استمرار الحرب في شكل مواجهات متقطّعة وصراع مفتوح، تتحوّل معها دارفور ساحة استنزاف طويلة الأمد، ما يعمّق الأزمة الإنسانية، بل قد يؤدّي أيضاً إلى إعادة إحياء النزعات الانفصالية في الإقليم، وفتح الباب أمام تدخّلات خارجية أكبر، إذ قد تجد بعض القوى الإقليمية نفسها مضّطرة إلى إعادة حساباتها وفقاً لمعادلة القوة الجديدة على الأرض، بينما قد تسعى أطراف أخرى إلى تأجيج الصراع للحفاظ على نفوذها، كما قد تضع التحوّلات الجارية السودان أمام احتمال فرض حلول سياسية من الفاعلين الدوليّين، خاصة مع تزايد الضغط الإنساني، وامتداد تداعيات الحرب إلى دول الجوار.
في سيناريوا سوداني محتمل، قد تتخذ مفاوضات شكل تسوية مؤقتة، تهدف إلى وقف إطلاق النار وفتح ممرّات إنسانية، أو قد تتطوّر نحو اتفاق شامل يعيد هيكلة الدولة السودانية
السيناريو الثالث، وقف الحرب عبر التفاوض المباشر، وعلى الرغم من أن احتمالات إجراء هذه المفاوضات تبدو ضئيلة، فإنّ الضغوط الإقليمية والدولية قد تلعب دوراً حاسماً في دفع الطرفين نحوها، خاصّة مع تفاقم الكارثة الإنسانية، وتزايد أعباء الحرب على الأطراف المتحاربة. ويمكن أن تتخذ المفاوضات شكل تسوية سياسية مؤقتة، تهدف إلى وقف إطلاق النار وفتح ممرّات إنسانية، أو قد تتطوّر نحو اتفاق أكثر شمولية يضمن إعادة هيكلة الدولة السودانية بشكل يحقّق توازناً بين مراكز القوى المتنافسة. ومع ذلك، يعتمد مدى نجاح هذا السيناريو، إلى حدّ كبير، على مدى استعداد القوى الخارجية للضغط على الأطراف المتحاربة، ومدى قبول قادة الجيش و”الدعم السريع” لحلول وسط قد تتعارض مع طموحاتهم السياسية والعسكرية.
يمكن القول إنه في ظلّ هذا المشهد السوداني المثقل بانعكاسات التشقّق والشقاق الداخلي والخارجي، تبقى الرهانات للخروج من هذا الوضع المتأزم مفتوحة على طروحات قليلة، معقّدة بحساباتها ونتائجها، فرهانات الحرب قد تجعل احتمالات تحقيق السيناريو الأول أو الثاني ضعيفة، في حين يبقى رهان السلم في السيناريو الثالث الأكثر احتمالاً والأفضل لإنهاء الحرب وبناء السلام. ومع ذلك، يعدّ تعدّد الحسابات والمسارات وتضاربها، وصراع الأجندات الإقليمية والدولية، من العوامل الأكثر تشويشاً لجهود رهانات السلم في السودان، باعتبارها جزءاً من عبثية المشهد السوداني الراهن، فمساعي بعض القوى الإقليمية والدولية لا تكفي وحدها للتوصّل إلى تسوية سياسية، فالأمر يحتاج ضماناتٍ دولية، إلى جانب التوافقات الداخلية.