رأي

السودان.. ماذا يعني اختراق الجيش ونقل الحرب إلى «الجزيرة»؟

كتب عزمي عبد الرازق في الجزيرة.

لم تجد قوات الدعم السريع المتمرّدة صعوبة في التوغل داخل ولاية الجزيرة، وحاضرتها ود مدني- 170 كيلومترًا جنوب شرق العاصمة الخرطوم- مقر الفرقة الأولى مشاة، وهي الولاية التي تحتضن آلاف النازحين، وتعدّ مركزًا نشطًا لعمليات الإغاثة، ما يعني أن احتلال قوات حميدتي الجزيرة، دون مقاومة، نقلة خطيرة في مستوى الحرب، أسفرت عن كعب أخيل، نقطة الضعف المميتة في صفوف الجيش.

تصدع الجبهة الشعبية

تعيش مدينة ود مدني والمناطق المجاورة لها منذ أيام، حالة من الهلع والنزوح وجرائم القتل والاغتصاب، وسط صدمة كبيرة إزاء انسحاب الجيش السوداني منها، وتركها نهبًا لقوات الجنجويد، مما تسبب في تصدع جدار الثقة بين قيادة الجيش وحاضنتها الشعبية.

هذا على الرغم من أن القوات المسلحة السودانية، أصدرت بيانًا للرأي العام بخصوص الانسحاب من الفرقة الأولى، تحدثت فيه، لأول مرة، عن تحقيقات جارية لمعرفة ملابسات الانسحاب، وقد تضمّن البيان المقتضب عبارة صعبَ على الناس تفسيرها، لكنها تشير، على الأرجح، إلى انسحابات غير مبررة في مناطق أخرى، كما حدث في مصنع اليرموك، ومعسكر جبل أولياء، جنوب الخرطوم، ومعظم حاميات دارفور، بطريقة أقرب إلى عمليات التسليم والتسلم، ولو شئنا الدقة، صفقات سرية بين قائد المنطقة، والدعم السريع.

إذ إن كثيرًا من تلك المدن والمواقع الحيوية لم تقع فيها أي معركة حربية، وآخرها بالطبع مدينة ود مدني، التي هي بموانعها الطبيعية عصية على الاحتلال، مداخلها محدودة جدًا، ومن الشرق يطوقها جسر حنتوب على ضفة النيل الأزرق، وعلى الشريط الغربي تمتد ارتكازات الجيش، إلى محلية الكاملين المتاخمة للخرطوم.

وحتى عصر الأحد كانت ود مدني تحتفل بالنصر، وكل الذين قرروا البقاء فيها كانوا على ثقة وقناعة بأنها لن تسقط أبدًا، فما الذي جرى، وهل سيكون فقدانها بداية لتصحيح الأوضاع العسكرية برمتها؟

معترك بلا معركة

التقارير الاستخباراتية والمعلومات الصحفية والحقائق الميدانية رسمت صورة مطمئنة لما يمكن أن يحدث في ود مدني، لكنها فجأة انهارت، بطريقة سينمائية، فلم تحدث أي مواجهات على الأرض، لدرجة أن سكان أحياء المدينة فوجئوا بقوات التمرد أمامهم، تغلق الطرق وتنصب الارتكازات وتنتهك الحرمات، مع مشاهد النهب والترويع، ولم تحدث تلك المعركة التي تم الإعداد لها منذ أيام.

المُحير في معركة ود مدني، أن قائد الجيش المنسحب، ترك خلفه كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية، كفَت التمرد مشقة شراء أو تهريب الأسلحة عبر الحدود، إذ لم يقم بنقلها ولا تدميرها، كما يحدث عادة عند الانسحاب، وبدا واضحًا، من الوهلة الأولى، أن الدعم السريع موقن تمامًا بأنه سوف يسيطر على هذه المدينة.

لقد زج فيها بأبرز قادته، ودفع بمئات المستنفرين والمرتزقة من داخل الخرطوم، بعضهم على سيارات مكشوفة، وهي أهداف سهلة للطيران، وكثير منهم يقودون دراجات بخارية، كأنهم في نزهة رياضية، وما كان لهم أن يقدِموا على هذه الخطوة إن لم يعلموا أن الطريق ممهدٌ أمامهم لاستباحة ولاية الجزيرة، والحصول على غنائم وافرة، وتحقيق انتصارات معنوية بأقل الخسائر.

الاختراق القديم

من المعروف أن قوات الدعم السريع تعتمد على دفع الأموال والعطايا لشراء الضباط ورجال الإدارة الأهلية وأصحاب النفوس الضعيفة، ويكاد يكون بهذه الطريقة نفسها سقط اللواء الأول مشاة “آلي الباقير”، في اليوم الأول للحرب، بعملية خيانة من أحد ضباط المؤسسة العسكرية.

وبعد ذلك تمدد التمرد في محلية الكاملين، وابتلع منطقة الباقير ومدينة جياد الصناعية، ثم زحف إلى المسعودية، والمسيد، والنوبة، وكاب الجداد، ومع ذلك لم يتحرك أحد.

وكانت حكومة الجزيرة تتلاعب بالناس، وتخادع بأن حدود الولاية مؤمنة، بينما خسرت أهم محلياتها، ولم يتم عزل قائد الفرقة ساعتها؛ ما يعني أن المؤامرة على الجيش قديمة، منذ اليوم الأول للحرب، بل أبعد من ذلك، ومحاولات اختراق صفوفه لم تتوقف.

لقد كانت تلك أحد أسباب سقوط نظام الإنقاذ، وأغرى ذلك السقوط أجهزة مخابرات عالمية لتستثمر في هذا الصراع، وترعى التمرد، وتوفر له الأموال والمعلومات الاستخباراتيَّة.

الخطر يتربص بالجميع

بعد سقوط مدينة ود مدني تحت يد الغزاة، تم تحميل المسؤولية لقائد الفرقة اللواء أحمد الطيب، ورشحت معلومات عن عزله من موقعه واتهامه بالخيانة، لكن سقوط كثير من المناطق والحاميات العسكرية، بالطريقة نفسها، يشي بأن الأمر يتجاوز الأفراد، وهنالك حالة تواطؤ عامة، وتقصير جماعي، وليس مستبعدًا- إن لم تكن تلك مجازفة بالظن- أن جهة ما تهيئ الأوضاع لانقلابات عسكرية، وأن خطة إغراق البلاد في الفوضى، تمضي كما هو مرسوم لها، إذ لا يزال الخطر يتربصّ بالسودان، والجميع ينتظر هول المفاجأة القادمة ليرى ماذا يفعل حيالها.

تمثّل السيطرة على ولاية الجزيرة، نقطة تحوّل محتملة في سير المعارك، تحديدًا وسط السودان، وفي حال لم يسارع الجيش في القيام بعملية عسكرية شاملة واستعادة هذه الولاية، والزحف منها إلى الخرطوم، سوف يتّسع الشرخ، وتنهار البلاد كلها، وسوف تقوم المليشيا بنشر الذعر وإتلاف البنية التحتية، وفتح معسكرات التدريب، وخلق خطوط إمداد جديدة، والانطلاق إلى الولايات الشرقية، بل وتهديد بورتسودان نفسها مقرّ الحكومة والمطار والميناء الرئيسي، ولن يشعر السكان الهاربون من الحرب، بأي أمان بعد اليوم، في أي منطقة سودانية.

الثغرة والحلول

قدّم الدعم السريع تبريرات مضحكة للهجوم على ود مدني، منها منع تجميع المستنفرين الذين راهن عليهم البرهان، وتوفير الأمن للسكان، في وقت خرج الأمين العام للحركة الإسلامية في تسجيل صوتي، طالب فيه صراحة، قادة الجيش بنشر الحقائق للسودانيين، وتسليح المستنفرين؛ لتجنب حالة التصدع في الجبهة الداخلية.

وهو تقريبًا دافع الهجوم الأخير المصحوب بدعاية سوداء وحرب نفسية ممن يقف وراء الدعم السريع، هدفه أن يظهر الجيش بمظهر الضعيف، ما يخلق شرخًا في الثقة بينه وبين الشعب السوداني، ويقضم بعد ذلك قضمته الكبرى.

بالطبع، ود مدني ليست هي آخر المطاف، ويحتاج قادة الجيش إلى مراجعات سريعة لإستراتيجيتهم العملياتية، من الدفاع عن المواقع العسكرية، إلى الهجوم، والانتشار على الأرض، والحفاظ على أهم نقاط القوة، وهي التفاف الشعب حولهم، وتنفيذ عمليات خاصة تستهدف قادة الدعم السريع، إلى جانب البحث عن حلفاء أقوياء في الخارج، فلا يمكن أن تقاتل وحدك، وعدوك يحظى بالحماية والدعم الخارجي.

وقبل كل شيء ثمة حاجة إلى حكومة وطنية بقدر التحديات، تحمل عن الجيش أعباء إدارة الدولة، ليتفرغ هو للقضاء على التمرد، وقطع دابر المؤامرة الخارجيّة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى