السودان بين انتصارات وهمية وأزمات تتفاقم
كتب د. عبدالمنعم همت, في “العرب”:
بينما يروج النظام لانتصاراته الوهمية يدرك الشعب السوداني أن هذه الانتصارات لا تعكس واقع الأحداث على الأرض. الوعي الجماهيري بات أكثر حدة مما يجعل من الصعب على النظام الاستمرار في ترويج الأكاذيب.
يعيش السودان فترة عصيبة تتجلى في محاولات الحكومة في بورتسودان تقديم انتصارات وهمية، تسعى من خلالها لتعزيز الروح المعنوية للجيش وإعادة تقديم الإسلاميين كمنقذين للبلاد. هذه الانتصارات المزعومة ليست سوى وسائل للسيطرة على الرأي العام، وخلق حالة من الوهم الجماعي تهدف إلى تمرير أجندات سياسية وعسكرية تخدم مصالح النظام الإسلامي. تتخذ هذه الحملة التضليلية شكل اعتذار ضمني للشعب، تهدف إلى تهدئة الغضب المتزايد تجاه قيادة الجيش التي لم تحقق أي نجاح يذكر.
تشبه هذه الإستراتيجية تلك التي تم اتباعها خلال الحرب مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، حيث كانت الأكاذيب تملأ الإعلام بينما كانت الهزائم تتوالى على الأرض. الهدف واضح: إطالة أمد الصراع لاستمرار النظام وحلفائه في السيطرة. يسعى الإسلاميون اليوم لتصوير الحرب الحالية كمعركة وطنية، رغم أنها في الواقع معركة لاستعادة حكمهم. عبر هذا التصوير، يحاولون شيطنة كل من يدعو إلى السلام، مما يدفع الشعب إلى تأييدهم بناءً على أسس دينية وقومية زائفة.
وفي دارفور، تتفاقم الأزمات مع تزايد المعارك بين أبناء الإقليم، مما يؤجج الانقسامات العرقية والإثنية ويزيد من تعقيد الوضع. هذه الأوضاع تنذر بالمزيد من التصعيد، مما يعمق الكراهية بين مكونات المجتمع الدارفوري ويزيد الفجوة مع باقي أجزاء السودان. الإسلاميون يستغلون هذه الانقسامات لتعزيز خطابهم العنصري وتحقيق مكاسب سياسية، مما يزيد من تعقيد الصراع.
على الرغم من الترويج المستمر للانتصارات العسكرية، فإن الواقع يكشف أن القيادة العسكرية لم تحقق نجاحا يذكر، سواء من الناحية العسكرية أو السياسية. يعتمد الجيش بشكل أساسي على استغلال العاطفة الشعبية ورغبة الناس في العودة إلى حياة طبيعية بعد شهور من الاضطرابات، محاولا تجنب مواجهة الحقيقة المؤلمة بأن الصراع الحالي لن يؤدي إلا إلى المزيد من الدمار.
◄ الشعب السوداني يتوق إلى العودة إلى الحياة الطبيعية، لكن النظام يبدو غير مستعد لتقديم هذه الفرصة. يستمر في استخدام القوة للسيطرة، وفي استغلال العواطف لصرف الانتباه عن الفشل
يُظهر النظام للشعب أن هذه الانتصارات الزائفة تمثل اعتذارا عن أخطاء الماضي، دون تقديم حلول حقيقية للأزمات المتفاقمة. الشعب السوداني في حاجة ماسة إلى خطوات فعلية نحو السلام والاستقرار، لكن النظام، في سعيه للحفاظ على سلطته، يكرر نفس الأخطاء التي أدت إلى تفاقم الأوضاع.
الإسلاميون، الذين يرون في هذه الحرب فرصة لاستعادة حكمهم، يقدمون أنفسهم كمنقذين. ومع ذلك، فإن حكمهم السابق كان جزءا من المشكلة التي يعاني منها السودان اليوم، وهم يستمرون في استخدام أدواتهم القديمة: الخطاب الديني، التأجيج القومي، واستغلال العواطف الشعبية، في حين أن مشروعهم لم يكن يوما مشروعا لبناء دولة قائمة على العدل والمساواة، بل كان دائما مشروعا قائما على الإقصاء.
دارفور، التي تعيش حاليا تحت وطأة صراع دموي، تمثل نموذجا حيا على تأثير هذه السياسات. المعارك الضارية التي تشهدها المنطقة لن تؤدي إلا إلى تعميق الخلافات وزيادة الانقسامات. هذه الصراعات ليست سوى صورة مصغرة لما يمكن أن يحدث إذا استمر النظام في استخدام القوة كوسيلة لحل الأزمات، مما قد يحول دارفور إلى بؤرة للكراهية والعنف.
بينما يروج النظام لانتصاراته الوهمية، يدرك الشعب السوداني أن هذه الانتصارات لا تعكس واقع الأحداث على الأرض. الوعي الجماهيري بات أكثر حدة، مما يجعل من الصعب على النظام الاستمرار في ترويج الأكاذيب. العودة إلى حكم الإسلاميين لن تجلب أي حلول، بل ستعيد البلاد إلى دوامة من القمع والاستغلال.
لقد عانى السودان لعقود من حكم الأنظمة التي تعتمد على العنف والقمع كوسيلة للبقاء. الحلول العسكرية لم تكن يوما ناجحة لبناء دولة مستقرة، بل جلبت المزيد من المعاناة وزادت من حدة الانقسامات. المستقبل لن يكون أفضل إذا استمر النظام في تجاهل دعوات السلام والتفاوض.
أما دور الإعلام في هذا السياق، فقد أصبح جزءا لا يتجزأ من إستراتيجية النظام لتوجيه الرأي العام. تُستخدم وسائل الإعلام المحلية لتضخيم الانتصارات الوهمية، مما يساهم في تشكيل واقع مواز حيث يتحول الخطاب العام إلى آلة دعاية قوية. تصبح أي أصوات معارضة متهمة بالخيانة، مما يزيد من صعوبة ظهور منابر تعبر عن وجهات نظر مختلفة.
حقيقة الأمر أن الشعب السوداني يتوق إلى العودة إلى الحياة الطبيعية، لكن النظام يبدو غير مستعد لتقديم هذه الفرصة. يستمر في استخدام القوة للسيطرة، وفي استغلال العواطف لصرف الانتباه عن الفشل. السودان اليوم أمام خيارين: إما اختيار طريق السلام والاستقرار من خلال فرض إرادة الشعب، أو الاستمرار في دوامة الصراع. السلام هو الخيار الوحيد لبناء مستقبل مستقر، والانتصارات الوهمية لن تنقذ البلاد، بل ستزيد من الدمار والانقسامات. للخروج من هذه الأزمة، يجب على السودانيين العمل بجد لتحقيق حلول دائمة تنهي دوامة العنف وتعيد البلاد إلى مسارها الصحيح.