السودان: الرباعية تحسم الاتجاه

كتب محمد فيصل الدوسري في صحيفة العرب.
إذا كان عنوان المرحلة هدنة 90 يومًا فمغزاها الحقيقي أبعد من التهدئة، أن نُعيد للسودان منطق الدولة المدنية وأن نُخرج العسكرة من السياسة قبل أن تدمر الحرب ما تبقّى من السودان.
واقعية بيان “الرباعية” بشأن الحرب في السودان اخترقت أزمةٍ طاحنة؛ في لحظة انتقال من إدارة الكارثة إلى محاولة فرض مسارٍ قابل للتنفيذ. تقاطعت أبوظبي والرياض والقاهرة وواشنطن على مقاربة واحدة. سردية الرباعي ليست تجميلًا سياسياً، بل إعادة ضبط لقواعد الأزمة بعد عامين من حربٍ أكلت الأخضر واليابس وثبّتت تقسيم الأمر الواقع كخطرٍ زاحف على الدولة والمجتمع معًا.
أهمية التحول لا تنبع من الصياغة فحسب، بل من اتساع الغطاء الذي اكتسبه؛ إذ لقيت خريطة الطريق ترحيبًا أمميًا وأفريقيًا وإقليميًا، ما يحولها من نوايا حسنة إلى مرجعية تنفيذ. وهذه النقطة تتسق تمامًا مع المقاربة الإماراتية التي التزمت بلا ضجيج في ثلاثية أخلاقية وعملية، إنقاذ الأرواح أولًا، والعمل مع الجميع لا ضد أحد، وتثبيت مدنية السياسة على حساب منطق الميليشيا. لم تقف الإمارات مع طرفٍ على حساب طرف، بل وقفت مع السودانيين؛ وتصدّرت العون الإنساني رغم حملات التضليل، ودفعت إلى مسارٍ يعيد للدولة توازنها.
المشهد الداخلي يزداد تعقيدًا بين “سلطة بورتسودان” وحكومةٍ موازية “السلام والوحدة” في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، يتوالد ازدواجٌ مؤسسي وسردي يطيل أمد الحرب. ومن خلف الستار تتحرك شبكات الإخوان المسلمين لتعقيد الأزمة بحثًا عن استرداد نفوذٍ فقدته بثمنٍ باهظ دفعه السودانيون. لا يكفي أن نسمي الأشياء بأسمائها؛ وينبغي أن يُترجم ذلك إلى آليات تنزع السلاح وتقطع الطريق على إعادة تدوير شراكات الدم بثوبٍ مدني. لهذا، كانت صراحة الرباعية في بيانها، بأن مستقبل السودان لا يُملى من جماعات متطرفة عنيفة مرتبطة بالإخوان؛ وهي صراحة تؤسس لمعيار الدولة المدنية فوق الأيديولوجيا.
أهمية التحول لا تنبع من الصياغة فحسب، بل من اتساع الغطاء الذي اكتسبه إذ لقيت خريطة الطريق ترحيبًا أمميًا وأفريقيًا وإقليميًا ما يحولها من نوايا حسنة إلى مرجعية تنفيذ
الاختبار هنا تنفيذي بالتحديد، “اختبار التسعين يومًا” ليس هدنةً عن السياسة، بل بدايتها الفعلية، إنقاذ الأرواح اليوم وفتح الطريق إلى انتقال الغد. وما يجعل هذه النافذة مختلفة هو أنّها تقرن وقف النار بإنفاذٍ ممكن، عبر آليات مراقبة مشتركة برعاية أفريقية وأممية، ومشغّلات مساءلة على أي خرق يستهدف المدنيين أو يعطل قوافل الإغاثة. لا هدنة تصمد إن بقيت شرايين الحرب مفتوحة، ولا انتقال يستقيم إن ظل اقتصاد الحرب يختطف الدولة من جيوب مواطنيها إلى خزائن أمراء السلاح.
وثمة من يلوّح بشعار السيادة كلما ضاقت دوائر الحرب على من يشتهيها. السيادة ليست لافتةً تُرفع لابتزاز الداخل، ولا ذريعةً لتعطيل الإنقاذ. السيادة الحقيقية هي قدرة السودانيين على تقرير مصيرهم عبر عمليةٍ شاملة وشفافة لا تتحكّم فيها القوى المتحاربة. هنا تتضح المقاربة التي تلتقي عليها الرباعية بخيارٍ واقعي. الخارج يسهّل ولا يفرض؛ والمعيار هو ما ينقذ البشر ويحمي الدولة. أما بالنسبة لمزايدات الإخوان؛ فالميدان كشف أن خطابهم لا يريد وقف الحرب ولا تسليم السلطة للمدنيين، بل يريد استعادة وصايةٍ أسقطتها ثورةٌ وفضحتها حرب.
يبقى أن نضع الحصان أمام العربة. انتقالٌ مدني خلال تسعة أشهر لا يمكن أن يكون واجهةً لشراكة مع السلاح، ولا قفزًا فوق العدالة. من دون مسارٍ واضح لإعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس مهنية ويُنهي عسكرة السياسة، لن يكون ما بعد الهدنة إلا هدنةً أخرى. ومن دون كسرٍ قانوني لأذرع اقتصاد الحرب، ستظل الدولة رهينة السوق السوداء لا عقدها الاجتماعي. سلطة بورتسودان وقوات الدعم السريع معًا مدعوان إلى التزامات قابلة للقياس، والقبول بأن زمن الامتيازات المسلحة قد انتهى. وهنا تتقدم أدوات الضغط الاقتصادية والدبلوماسية التي لوّحت بها العواصم الأربع، بما فيها عقوباتٌ ذكية تستهدف الأشخاص والكيانات بدل معاقبة الشعب.
هذا هو معنى أن “الرباعية تحسم الاتجاه”، لأن توازن الضعف الذي أوصل الحرب إلى حافتها لم يعد يسمح بعناوين رمادية. بين حكومتين في مناطق سيطرتهما، وسرديتين يقف خلف أحدهما وصاية جماعة الإخوان، وبين طرفين متحاربين يعتقد أحدهما أنه ليس طرف في الصراع، وبين سياسةٍ تُدار بالحقائق وأخرى تُبتز بالشعارات، يطل مسارٌ لا يطلب من السودانيين التصفيق، بل يطلب منهم أن يمتلكوه ويحاسبوا عليه. هنا جوهر بيان الرباعية: إنقاذ الأرواح اليوم، وتسليم السلطة للمدنيين غدًا. وإذا كان عنوان المرحلة هدنة 90 يومًا، فمغزاها الحقيقي أبعد من التهدئة، أن نُعيد للسودان منطق الدولة المدنية، وأن نُخرج العسكرة من السياسة قبل أن تدمر الحرب ما تبقّى من السودان.




