رأي

السودان.. الحرب التي ستغير وجه أفريقيا وتعيد تشكيل النظام العالمي

كتب عبدالكريم سليمان العرجان, في صحيفة العرب:

ما لم يدركه العالم بعد هو أن السودان ليس مجرد دولة أفريقية أخرى تنهار بل هو مفتاح استقرار أو فوضى المنطقة بأكملها، فإذا تُرك السودان ليحترق فلن تتوقف النيران عند حدوده.

في قلب أفريقيا، حيث يمتزج التاريخ بالدم، يشتعل السودان بحرب ليست كغيرها. ليست مجرد حرب أهلية بين جيشين متناحرين، بل معركة تُعيد رسم ملامح القارة، وتفتح أبواب الفوضى على مصراعيها. ما يحدث اليوم ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات تاريخية، وتآمر دولي، وصراعات نفوذ جعلت السودان برميل بارود جاهزاً للانفجار في أيّ لحظة. اليوم، نشهد حرباً تحمل في طياتها ملامح تقسيم جديد، وتحولات قد تجعل السودان صومالا آخر، لكن بحجم قارة.

عندما حكم الاستعمار السودان، لم يُنظر إليه كدولة، بل كرقعة جغرافية تُدار بالمؤامرات والتقسيم. زرع الاستعمار بذور الفتنة بين الشمال والجنوب، بين العرب والأفارقة، وبين المركز والهامش، فكان الاستقلال مجرد بداية لفصل جديد من التمزق. الحكم العسكري أصبح السمة الغالبة، والانقلابات صارت جزءاً من المشهد السياسي، حتى باتت الدولة رهينة لصراعات النخب، لا لخدمة شعبها. وعندما جاء عمر البشير، أدرك أن السيطرة تحتاج إلى قوة عسكرية غير نظامية، فصنع “الجنجويد”، وسلّحها كأداة قمع في دارفور، ثم تحوّلت هذه القوة إلى وحش خرج عن السيطرة، ليصبح جيشًا موازيًا باسم “الدعم السريع”، بقيادة رجل لا ينتمي للمؤسسة العسكرية، لكنه أصبح أقوى من الجيش نفسه محمد حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”.

◄ الخطوات التي يجب اتخاذها ليست مجرد مؤتمرات وبيانات إدانة، بل تحركات فعلية تبدأ بفرض حظر على تدفق الأسلحة إلى قوات الدعم السريع

كبر الدعم السريع، وتضخمت ثروته عبر مناجم الذهب، وامتدت أذرعه إلى شبكات إقليمية ودولية، من الخليج إلى روسيا، ومن ليبيا إلى تشاد. وحين سقط البشير، ظن الجميع أن السودان سيسير نحو الديمقراطية، لكن الحقيقة أن لعبة السلطة لم تكن بيد المدنيين، بل في يد قوتين مسلحتين تتنافسان على الهيمنة، الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان، والدعم السريع بقيادة حميدتي. كان الصدام حتمياً، لكن الشرارة جاءت عندما طالب الجيش بدمج الدعم السريع تحت قيادته، فرفض حميدتي، لأنه يعلم أن دمج قواته يعني نهايته السياسية والعسكرية. بدأت المناوشات، ثم تحولت إلى حرب مفتوحة، حرب لا تدور فقط بين رجال يحملون السلاح، بل بين قوى إقليمية وعالمية ترى السودان كنزاً إستراتيجياً يجب السيطرة عليه.

السودان ليس بلداً فقيراً كما يروّج البعض، بل هو واحد من أغنى دول أفريقيا بالموارد. الذهب يتدفق من أرضه، والنفط لا يزال مورداً خفياً، والمياه التي تجري في نيله تتحكم في مصير دول بأكملها. كل قوة عظمى لها يد في الصراع. روسيا دخلت عبر فاغنر، تموّل وتدعم قوات حميدتي، ليس حباً فيه، بل لضمان تدفق الذهب إلى موسكو، وللحصول على موطئ قدم في البحر الأحمر عبر قاعدة في بورتسودان. الولايات المتحدة تريد منع روسيا بأيّ ثمن، فدعمت الجيش، لكن ليس بالقوة الكافية لحسم المعركة. بعض الدول العربية لها مصالح اقتصادية في تجارة الذهب، ودول أخرى تحاول لعب دور الوسيط، بينما تعتبر مصر الجيش السوداني حائطها الدفاعي الأخير، فيما إسرائيل تراقب بصمت، تنتظر اللحظة المناسبة لفرض نفوذها.

لكن في خضم هذه الحرب، هناك حقيقة يجب أن تُقال، الجيش السوداني هو آخر خطوط الدفاع عن وحدة السودان. كل الدول التي فقدت جيوشها النظامية انتهت إلى الفوضى والانقسام، من ليبيا إلى اليمن. وإذا سقط الجيش السوداني، فلن يبقى هناك سودان موحد، بل دويلات ممزقة تتناحر فيما بينها، وتصبح ساحة مفتوحة لتدخلات القوى الخارجية. الجيش ليس مجرد قوة عسكرية، بل هو العمود الفقري للدولة، وحجر الأساس في تماسكها. دعم الجيش ليس مجرد انحياز لطرف في الحرب، بل هو انحياز لاستقرار السودان وبقائه كدولة موحدة.

في المقابل، تحولت قوات الدعم السريع إلى ميليشيا غير منضبطة، وتسعى إلى فرض واقع جديد بقوة السلاح. تحالفاتها العابرة للحدود تجعلها أشبه بكيان مرتزق يخدم مصالح أطراف أخرى أكثر من خدمته للسودان نفسه. سيطرتها على الذهب، علاقاتها بفاغنر، وامتدادها إلى دول الجوار، كلها مؤشرات على أن مشروعها لا يتعلق بإصلاح السودان، بل بتحويله إلى منطقة نفوذ دولية تُدار كإقطاعية خاصة لأمراء الحرب.

◄ الدعم السريع كبر وتضخمت ثروته عبر مناجم الذهب، وامتدت أذرعه إلى شبكات إقليمية ودولية، من الخليج إلى روسيا، ومن ليبيا إلى تشاد

إذا استمرت الحرب على هذا النحو، فإن السيناريوهات القادمة ستكون كارثية. السودان قد ينقسم إلى دويلات متصارعة، دارفور قد تصبح مستقلة بحكم الأمر الواقع، والنيل الأزرق وجبال النوبة قد يسيران في نفس الاتجاه. مصر ستواجه خطر انهيار جارتها الجنوبية، مما يعني تهديدًا مباشرًا لأمنها المائي. ليبيا وتشاد وإثيوبيا ستجد نفسها وسط دوامة جديدة من عدم الاستقرار، وستصبح أفريقيا ساحة جديدة للحروب بالوكالة بين أميركا وروسيا والصين. موجة الهجرة القادمة من السودان ستكون الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وستغرق مصر وأوروبا بالملايين من اللاجئين. والأخطر من ذلك، أن السودان قد يصبح بيئة خصبة لنشاط الجماعات المتطرفة، حيث تستغل الفوضى لتأسيس إماراتها الخاصة.

ما لم يدركه العالم بعد هو أن السودان ليس مجرد دولة أفريقية أخرى تنهار، بل هو مفتاح استقرار أو فوضى المنطقة بأكملها. إذا تُرك السودان ليحترق، فلن تتوقف النيران عند حدوده. وعلى القوى الكبرى أن تدرك أن الوقت قد نفد، وأن أيّ تأخير في إيجاد حل لن يكون مجرد تأجيل للأزمة، بل سيكون بمثابة توقيع على شهادة وفاة السودان كدولة موحدة. على المجتمع الدولي أن يختار، إما تدخل سياسي حقيقي يفرض وقف الحرب، أو مواجهة نتائج انهيار السودان، التي ستجعل من أزمة سوريا أو ليبيا مجرد نماذج مصغرة لما هو قادم.

الخطوات التي يجب اتخاذها ليست مجرد مؤتمرات وبيانات إدانة، بل تحركات فعلية تبدأ بفرض حظر على تدفق الأسلحة إلى قوات الدعم السريع، وضغط دولي على القوى الإقليمية لوقف دعمها المالي والعسكري لها، ودعم الجيش السوداني لاستعادة السيطرة على البلاد. لا يمكن ترك السودان ليقرر مصيره وحده وسط هذا الكم الهائل من التدخلات الخارجية، لأن الحقيقة أن القوى التي أشعلت الحرب ليست سودانية فقط، بل هي مزيج من مصالح دولية تتقاتل على أرضه.

إذا لم يُوقف هذا النزيف الآن، فسنشهد خلال سنوات قليلة ليس فقط انهيار السودان، بل حرباً إقليمية كبرى ستعيد رسم خريطة أفريقيا، وستخلق مناطق نفوذ جديدة، وستترك العالم أمام كيان فاشل بحجم قارة، تتصارع فيه الميليشيات، وتنهار فيه الدول، وتتسرب منه الفوضى إلى كل مكان. هذه ليست مجرد نبوءة، بل مسار بدأ بالفعل، والسؤال الوحيد المتبقي هو، من سيوقفه، قبل أن يُصبح السودان نموذجاً للحرب التي لا تنتهي؟

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى