رأي

السعودية وتركيا في طهران: توازن القوى الإقليمي في مواجهة التهديدات

كتب د. جيرار ديب في صحيفة العرب.

زيارة الوفدين السعودي والتركي إلى طهران، واجتماعهما مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، تمثل محطة بالغة الأهمية على صعيد الديناميات الإقليمية في الشرق الأوسط. فاللقاءات التي جرت يوم الأحد 30 نوفمبر لم تقتصر على تبادل المجاملات الدبلوماسية، بل حملت في طياتها رسائل سياسية استراتيجية، تحدد معالم التوازنات الجديدة في المنطقة، وتضع محور إيران في دائرة مراقبة دقيقة من قبل جيرانها الإقليميين.

 لقد جاء التوقيت السياسي لهذه الزيارة ليثير التساؤلات حول مدى ارتباطها بالضغط الأميركي المستمر على إيران، ومحاولة حث طهران على التراجع عن برنامجها النووي والصاروخي الباليستي، الذي يعتبره كل من السعودية وتركيا تهديدًا مباشرًا لأمنهما القومي ولمصالحهما الإقليمية، خاصة في سياق العلاقات المتوترة التي شهدت أحيانًا القطيعة الكاملة بين الرياض وطهران.

لا يمكن النظر إلى هذه الزيارة بمعزل عن الدور الأميركي في المنطقة، إذ يبدو أن ثمة تنسيقًا غير معلن بين واشنطن وأنقرة والرياض يهدف إلى كبح شبح حرب كبرى محتملة في المنطقة.

التصريحات الإسرائيلية المتكررة حول ضربات جديدة ضد إيران بسبب تطوير قدراتها النووية والصاروخية، وتصعيد خطابات الردع عبر الإعلام الرسمي، كان لها أثر مباشر على هذا المسعى، حيث تحاول تل أبيب رسم سيناريوهات ضغط مستمرة لإظهار إيران كخطر دائم على استقرار المنطقة. لكن اللقاءات السعودية والتركية مع طهران تنبئ عن مسار آخر يسعى لكبح هذه السرديات، ويعيد للأحداث الإقليمية بُعدًا أكثر واقعية واستقرارًا. فهذه الاجتماعات تُظهر قدرة الرياض وأنقرة على السير في مسار دبلوماسي مستقل نسبيًا، يوازن بين مصالحهما القومية والاستراتيجية وبين الضغوط الأميركية، دون الانجرار وراء خطاب التهويل الإسرائيلي.

في الواقع، العلاقة بين السعودية وتركيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، لم تعد مجرد روابط تقليدية، بل أصبحت أكثر تعقيدًا وعمقًا. فقد أعادت الرياض إحياء اتفاقية “كوينسي” مع واشنطن، وأعادت ترسيخ العلاقة التي شهدت فتورًا في عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، بينما جسد لقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع ترامب عمق هذه العلاقة، الذي بلغ ذروته بموافقة الولايات المتحدة على بيع الرياض طائرات إف-35 الشبحية، ما يضع المملكة في مرتبة قوة إقليمية غير مسبوقة.

وبالمثل، أظهرت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للبيت الأبيض في سبتمبر الماضي توسع التعاون بين أنقرة وواشنطن، بما في ذلك في مجالات تطوير الطائرات وعمليات الدعم العسكري، وهو ما منح تركيا قدرة على التأثير في الملفات الإقليمية الكبرى مثل سوريا وغزة.

ورغم هذا التقارب مع واشنطن، لن تسمح تركيا أو السعودية بتمادي إسرائيل في المنطقة تحت شعار “شرق أوسط جديد” أو مشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يسعى إليه نتنياهو. فإدارة أنقرة والرياض للمشروع الإيراني

زيارة الوفدين السعودي والتركي لطهران تؤكد أن الحلول الدبلوماسية والتنسيق الإقليمي بين القوى الكبرى تبقى السبيل الأنجع لاحتواء التوترات، وخلق بيئة من الاستقرار الإقليمي.

الإقليمي، بدءًا من العراق ووصولًا إلى سوريا ولبنان، تتطلب توازنًا دقيقًا، لا يمكن أن يُقوض بمبادرات إسرائيلية تهدف إلى تقسيم المنطقة لصالح طموحاتها التوسعية.

هنا يظهر التناقض الواضح بين التوجهات الأميركية الداعية للتطبيع مع إسرائيل، ورفض الرياض لأي اتفاقات أبراهام قبل تحقيق حل الدولتين، الذي يمثل شرطًا استراتيجيًا لضمان الاستقرار الإقليمي ومصالح المملكة.

ولا يخفى أن التوسع الإسرائيلي في قطاع غزة وسوريا، بما في ذلك السيطرة على الموارد النفطية والغازية، يشكل تهديدًا مباشرًا لمصالح السعودية، لا سيما في أسواق الطاقة الأوروبية، ويهدد أمان صادرات أرامكو من النفط الخام، إذ أن استمرار الحرب مع إيران قد يؤدي إلى تعطيل حركة ناقلات النفط عبر مضيق هرمز.

لهذا، فإن استراتيجية السعودية وتركيا ترتكز على إبقاء إيران “مقطوعة الأذرع” نسبيًا، بما يضمن توازن القوى بين الأطراف الأربع الرئيسية في المنطقة: إيران، إسرائيل، تركيا، والسعودية، وهو ما يخدم أيضًا السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، التي تعتمد على استقرار هذه الركائز لحماية مصالحها الإقليمية.

وتشير المعطيات إلى أن إيران، رغم وضعها “المتهالك” في بعض الجوانب، تظل عنصرًا حيويًا في الحسابات الإقليمية، إذ يشكل وجودها رادعًا للسياسات الإسرائيلية التوسعية، ويمنح الرياض وأنقرة هامشًا من المناورة لتقليص النفوذ الإسرائيلي في سوريا ولبنان وغزة.

وقد بات واضحًا أن الضغوط العسكرية والسياسية الإسرائيلية، سواء عبر التهديدات المباشرة أو الحرب الإعلامية، لم تعد قادرة على فرض سردية أحادية حول إيران كتهديد مطلق، بل أصبحت المنطقة أكثر تعقيدًا، مما يستدعي حلولًا دبلوماسية متعددة الأبعاد.

ختامًا، يمكن القول إن زيارة الوفدين السعودي والتركي لطهران تعكس فهمًا عميقًا للتوازنات الإقليمية، وتؤكد على أن الحلول الدبلوماسية والتنسيق الإقليمي بين القوى الكبرى، بما فيها السعودية وتركيا وإيران، تبقى السبيل الأنجع لاحتواء التوترات، وخلق بيئة من الاستقرار الإقليمي. فالزيارة ليست مجرد لقاءات روتينية، بل هي رسالة واضحة بأن المنطقة لا يمكن أن تُدار عبر سياسة أحادية أو ضغط إسرائيلي مباشر، وأن الحوار الاستراتيجي المتوازن هو الطريق لضمان مصالح الدول الإقليمية ومنع اندلاع صراعات كبرى قد تُهدد أمن الشرق الأوسط بأسره.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى