السعودية تفتح لإيران طرقا لما بعد الطغيان والنكران
كتب علي الصراف في “العرب اللندنية”: عندما تختار سبيلا، تراه جليا في منافعه ونهاياته، فلا تتردد في الأخذ بكل ما يقتضيه. لا تتوقف عند تفاصيل صغيرة. ولا تلتفت إلى الوراء أصلا.
هذا هو المعنى من الدعوة التي وجهها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة الرياض، وذلك بينما كان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان يتفكّر في أيّ العواصم التي يمكن أن تحتضن لقاءه الأول مع الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي.
الرياض، أو طهران، هما المكان. هكذا من دون تفكّر زائد عن اللزوم.
شجاعة الخطوة السعودية تجاه إيران، والطريقة التي تم تدبّرها لتكون برعاية ضامن دولي مؤثر، لم تُبق مكانا للتعثر ولا للمكابرة.
سرد الحقائق يفيد في إيضاح المعاني. وهو الذي دل، في النهاية، على حسن السبيل.
الحقائق تقول، إن إيران تمارس أعمالا عدوانية في المنطقة. ذلك جزء من طبيعتها. إنه هويتها السياسية والدينية والأيديولوجية، ما يجعلها عاجزة عن فعل أي شيء آخر.
وهي تمارسها على نكران. بمعنى أنها تؤذي وتنكر. ليس لأنها كيانٌ جبان ورعديد فحسب، بل لأنها تلحظ التناقض بين مسالكها العدوانية وبين التزاماتها كـ”دولة”. و”الدولة” في إيران ليست أكثر من كيان نظري، أمام الطبيعة الميليشياوية لنظامها السياسي. وهي تفهم أن مسالكها ليست مسالك دولة. هويتها تمنعها من أن تتصرف كدولة أصلا. الدول التزامات ومعاهدات وضوابط، سجّلها ميثاق الأمم المتحدة بأفضل ما يمكن من تفاصيل. وهي تُملي احترام وحدة وسيادة الدول الأخرى، وتمنع التدخل في شؤونها الداخلية، وتجرّم ارتكاب أعمال عنف مسلح ضدها. وإيران لا تستطيع أن تلتزم بذلك، ما يجعل عضويتها في الأمم المتحدة عملا من أعمال النفاق.
وهي كيان يمتلك موارد وقابلية على استدامة الأذى وإطالة أمد الضرر. الحرب في اليمن، وأعمال النهب والفساد والعنف في العراق، والخراب في سوريا، وصولا إلى الانهيار الشامل في لبنان، والفقر في إيران نفسها، تدل جميعها على أنها كيان لا يأبه لما توقعه سياساته من ضرر. لا يأبه بمَنْ يتم التضحية بهم من البشر. كما لا يأبه بأيّ كارثة قد تصيب الملايين من الناس. ولا يشغل نفسه في معالجتها. إنه كيان ينظر إلى كل خراب وضرر على أنه قدر. وبالتالي فلا حاجة لوقفه.
عندما نشب وباء كورونا، على سبيل المثال في إيران نفسها، فقد ترك الولي الفقيه الناس يموتون، بكل بساطة. وهذا هو بالضبط ما يفعله الحوثي في اليمن، وحزب الله في لبنان. وهو أنهما، تبعا لفقه وليّهم الفقيه، يتركون الناس يموتون فقرا وقهرا وجوعا. إنه قدر. وكذلك كان الحال في سوريا والعراق، حتى تهجّر من أرضهم ومنازلهم الملايين من البشر. أكثر من 17 مليونا في المجمل. 5 في العراق و12 في سوريا.
إيران نمط من أنماط الكيانات التي لا تواجه إلا بأحد خيارين: حرب تطحن كل شيء، أو “كفّ الشر”.
والحرب بين ضفتي الخليج ليست خيارا، لأنها لن تعد المنطقة والعالم إلا بدمار تدوم آثاره إلى ما لا يقل عن نصف قرن، وقد لا تزول أبدا. وهي غير ممكنة أصلا من دون العراق. فهذا هو البلد الوحيد الذي لديه من مقومات التاريخ والجغرافيا ما يجعله قادرا على وقف نزعة العدوان والنكران عند حد.
و”كفُّ الشر” يتطلب ضمانات، تأخذ بمزاعم الدولة لكي تحوّلها إلى التزامات. كما أنه يقبل “النكران” على أنه “حقيقة” أملا بأن تثبت نفسها أمام شاهد يشهد. وهو يكسب الوقت. ويمنح المأزوم بنفسه ومع شعبه الفرصة لإعادة النظر. إنه قول ليّن لفرعون لعله يتذكر أو يخشى.
هذه هي التسوية. إنها كفٌّ للأذى. وأمل بأن يُدرك الطغيانُ أنه طغى.
ولا شيء يمكن انتظاره حقا مما أحدث الطغيان في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن. القليل من كفّ الشر يمكن أن يكون مفيدا لكسب الوقت أيضا. لعل الصواب يشق طريقا آخر غير مجرى الخراب الذي بقي يهيمن على مصائر هذه الدول.
في العراق، ربما يمكن لبعض الاستثمارات العربية والأجنبية أن تأتي لتحل محل “استثمارات” النهب والخديعة التي قادتها ميليشيات الحرس الثوري. فتوفر للعراقيين مواطن شغل، وفساد أقل.
وفي سوريا، لعل محاولات الاستيعاب تفضي إلى فرصة لكي تعيد السلطة النظر في أنها استعانت بمن لم يورّثها إلا الخراب، وما كان لها أن تقدم من بعده ما يُقيلها من العثرة، وبأنها قست، فسقت دماء بدماء كان من الممكن توفيرها.
وفي لبنان لعل الحبال التي تشنق البلد تسترخي على تسوية تسمح بإصلاحٍ بات شرطا لا غنى عنه للإنقاذ.
وفي اليمن، لعل هدنة توقف الحرب فتمنح اليمنيين متنفسا من الهزيمة أمام الفقر والتشرد، إن لم يكن السلام الشامل ممكنا، وإن لم تكن التسوية السياسية قابلة للحياة.
ليس مطلوبا الهزيمة لأحد. لأن الحرب نفسها لم تعد خيارا مطلوبا. ما تحتاج جماعات الولي الفقيه أن تفهمه، هو أنها، ولو كانت سببا من أسباب الخراب والهزيمة، فإن هزيمتها لم تعد هي الموضوع الأهم. الموضوع هو أن لعبة الأذى والنكران يمكن أن تتوقف لصالح لعبة أخرى، تنفع الجميع. فإن لم يكن ذلك ممكنا، فالهدنة مع عذابات الناس على الأقل.
ميليشيات الولي الفقيه تحكم في العراق وتتحكم بسوريا ولبنان واليمن. لا شيء يهددها. وعليها من بعد ذلك أن تنظر فيما إذا كان بوسعها أن تشق لهذه البلدان طريقا يُثبت أنها جديرة بما تقول عن نفسها، وأن انطباعات الواقع خاطئة عنها، وأن بصمات أصابعها على الجريمة، ليست بصماتها، والأصابع ليست أصابعها، فتسمح لشعوب هذه الدول أن تتنفس، بفساد أقل ونفاق أقل وإرهاب أقل.
كل هذا، إنما يسعى إلى كسب الوقت والأمل بالصواب. إنه قول ليّنٌ ورهانٌ على أن يرث التعقل مواضع الطغيان والنكران.