رأي

السعودية تفتح أبوابها لعصر ما بعد النفط

كتب علي قاسم في صحيفة العرب.

التحولات التقنية لا تكتمل دون كوادر بشرية مؤهلة ولمواجهة هذا التحدي أطلقت السعودية برنامج “ساعة الذكاء الاصطناعي” ودرّبت أكثر من 300 ألف طالب وطالبة على مهارات تحليل البيانات والبرمجة.

منذ أن أطلقت المملكة العربية السعودية رؤيتها الطموحة 2030، بدا واضحًا أن البلاد لا تسعى فقط إلى تنويع مصادر دخلها، بل إلى إعادة تعريف ذاتها اقتصاديًا واجتماعيًا على نحو جذري. السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يمكن للسعودية أن تتحول من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط إلى اقتصاد معرفي يقوده الذكاء الاصطناعي؟ هذا السؤال لا يخص السعودية وحدها، بل يعكس معضلة أوسع تواجهها دول كثيرة في المنطقة، حيث الموارد الطبيعية كانت لعقود نعمةً ونقمةً في آنٍ واحد.

رؤية 2030 ليست مجرد خطة تنموية، بل إعلان نوايا لتغيير قواعد اللعبة. فالمملكة، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، اختارت أن تضع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في قلب هذا التحول، لا بوصفهما أدوات مساعدة، بل كركائز إستراتيجية تعيد رسم موقع السعودية على الخريطة العالمية. هذا التحول لا يقتصر على البنية التحتية الرقمية، بل يمتد إلى إعادة تشكيل الثقافة الاقتصادية، وتوجيه الاستثمارات نحو المستقبل بدلًا من الماضي.

مشروع “الارتقاء” الوطني، الذي يخطط لاستثمار نحو 100 مليار دولار في العقد القادم، ليس مجرد ضخ مالي، بل هو إعلان عن دخول السعودية عصر البيانات الضخمة والاتصالات فائقة السرعة. صندوق الاستثمارات العامة، الذي تتجاوز أصوله 900 مليار دولار، خصص أكثر من 40 مليار دولار لمشاريع الذكاء الاصطناعي، في خطوة تعكس جدية المملكة في بناء اقتصاد رقمي متكامل. دخول شركات مثل غوغل، وإنفيديا، وأمازون إلى السوق السعودي، واستثمارها في “منطقة الذكاء الاصطناعي”، يؤكد أن السعودية لم تعد مجرد مستهلك للتكنولوجيا، بل باتت تسعى لتكون منصة إنتاج وتطوير.

لكن التحول الرقمي لا يمكن فصله عن التحول في مجال الطاقة. فالسعودية، التي لطالما ارتبط اسمها بالنفط، تنفذ اليوم أكبر برنامج عالمي للطاقة الشمسية وطاقة الرياح. مشروع “نيوم”، الذي يُعد أيقونة هذا التحول، يجسد مدينة مستقبلية تعتمد بالكامل على الطاقة النظيفة، ما يتيح تشغيل مراكز البيانات الضخمة بكفاءة عالية وتكلفة منخفضة. هذا التزاوج بين الطاقة المتجددة والتقنيات الرقمية يمنح المملكة ميزة تنافسية يصعب تجاهلها في السوق العالمية.

ومع ذلك، فإن التكنولوجيا وحدها لا تصنع التحول. فالعنصر البشري يظل العامل الحاسم في نجاح أيّ مشروع طموح. السعودية أدركت هذا جيدًا، فأطلقت مبادرات تدريبية مثل “ساعة الذكاء الاصطناعي”، التي درّبت أكثر من 300 ألف طالب وطالبة على مهارات تحليل البيانات والبرمجة. كما فتحت أبوابها للخبراء الدوليين، وعقدت مؤتمرات مثل “HumAIn” الذي يجمع قادة الفكر في الذكاء الاصطناعي، بهدف بناء منظومة معرفية وأخلاقية تدمج الذكاء البشري والآلي في نسيج المجتمع.

إذا ما وُفّقت المملكة في تأهيل الكفاءات، وصياغة السياسات الرشيدة، وتعزيز الحماية السيبرانية، فإنها ستنجح في استثمار أعظم ثرواتها: الإنسان. وعندها، لن تكون السعودية مجرد لاعب في عصر الذكاء الاصطناعي، بل رائدًا عالميًا في تشكيل ملامحه

اللافت أيضًا هو الدور المتنامي للمرأة السعودية في هذا القطاع، حيث بدأت تبرز نماذج نسائية قيادية في مجالات البرمجة والبحث العلمي، في تحول اجتماعي عميق يسير جنبًا إلى جنب مع التحول التقني. هذا التغيير لا يعكس فقط تطورًا في السياسات، بل في العقليات أيضًا.

التوقعات الاقتصادية تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يضيف نحو 135.2 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي السعودي بحلول عام 2030، من خلال تحسين أداء قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والصناعة. في القطاع الصحي، تُستخدم خوارزميات لتحليل صور الأشعة وتحديد المخاطر بدقة، ما يعزز التشخيص ويخفّض التكاليف. وفي التعليم، يتيح تحليل الأداء الفردي للطلاب تقديم توصيات تعليمية مخصصة. أما في الصناعة، فتُستخدم الروبوتات الذكية لتحسين الإنتاج وتقليل زمن التسليم.

لكن هذا الطريق ليس مفروشًا بالورود. فالسعودية تواجه ثلاثة تحديات رئيسية: أولها نقص الكوادر المتخصصة، حيث لا تزال الحاجة ماسة إلى مئات الآلاف من المهندسين والعلماء، ما يتطلب إصلاحًا جذريًا في التعليم الجامعي وتسهيل إجراءات التوظيف الدولية. ثانيها التهديدات السيبرانية، التي قد تعرقل البنية التحتية الحيوية، ما يستدعي استثمارات ضخمة في أنظمة الحماية ومراكز الاستجابة للأزمات. أما التحدي الثالث، فهو التكاليف التشغيلية المرتفعة، التي قد تثقل كاهل الميزانيات إذا لم تحقق الاستثمارات العوائد المرجوّة في الوقت المناسب.

لتجاوز هذه العقبات، وضعت الحكومة السعودية أطرًا تنظيمية واضحة تضمن الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، بدءًا من حماية البيانات الشخصية، ووصولًا إلى منع التحيّز في القرارات الآلية، مستفيدة من تجارب دولية رائدة، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي.

وفي خطوة تعكس طموحًا غير مسبوق، أعلنت الرياض في يوليو 2025 عن مناقشات متقدمة مع شركة xAI التابعة لإيلون ماسك، لضخ استثمارات قد تصل إلى 10 مليارات دولار في تطوير نموذج “Grok 3“، وتعزيز قدرات التحليل اللغوي والتنبؤي. كما تعمل الحكومة على إنشاء صندوق استثماري بقيمة 15 مليار دولار لدعم الشركات الناشئة في مجالات الروبوتات، والرعاية الصحية، والتعليم الذكي. حتى شركة أرامكو، رمز النفط التقليدي، دخلت على خط الذكاء الاصطناعي، معلنة عن دمج الخوارزميات في إدارة الحقول النفطية لتحسين الكفاءة وخفض الانبعاثات، في خطوة تحمل دلالة رمزية على أن التحول لا يعني القطيعة، بل إعادة تعريف العلاقة مع الموارد التقليدية.

يبقى التحدي الأكبر متمثلًا في الأفراد، خصوصًا الشباب، الذين عليهم أن يثبتوا أن المستحيل ليس سعوديًا، وأنهم قادرون على تحويل وطنهم من مستورد للتكنولوجيا إلى مُصدّرٍ للمعرفة والابتكار. الطريق أمامهم ليس سهلًا، لكنه مفتوح، بفضل رؤية إستراتيجية واستثمارات ضخمة لا تقلّ أهمية عن النفط ذاته.

إذا ما وُفّقت المملكة في تأهيل الكفاءات، وصياغة السياسات الرشيدة، وتعزيز الحماية السيبرانية، فإنها ستنجح في استثمار أعظم ثرواتها: الإنسان. وعندها، لن تكون السعودية مجرد لاعب في عصر الذكاء الاصطناعي، بل رائدًا عالميًا في تشكيل ملامحه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى