السجّاد الأحمر الصيني مفروشاً لقيس سعيّد
كتب سالم لبيض في صحيفة العربي الجديد.
أنهى الرئيس التونسي قيس سعيّد في 1 يونيو/ حزيران الحالي زيارةَ دولةٍ دامت أربعة أيام إلى الصين، تخلّلتها مشاركته، ضيفَ شرفٍ، في الجلسة الافتتاحية للاجتماع الوزاري العاشر لمنتدى التعاون العربي – الصيني، في بكين، بحضور الرئيسَين المصري والإماراتي، وملك البحرين، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية. لقي الرئيس التونسي حفاوة لافتةً من الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي أقام على شرفه مراسم استقبال رسمية، وفرش له السجّاد الأحمر خلال مختلف مراحل الزيارة.
تبدو زيارة سعيّد، في ظاهرها، وهي المُشبعة بالجوانب البروتوكولية والرمزية والاجتماعات البينيّة، ذات أهمية قصوى. فقد افتتحت باستقبال رسمي على أنغام النشيدَين الرسميَّين للبلدَين، وتنظيم اجتماع للرئيسَين والوفدَين المرافقَين، تلت ذلك مأدبةُ غداءٍ على شرف رئيس الجمهورية التونسية وحرمه، بحضور الرئيس الصيني وحرمه. كما تضمّنت الزيارة وضع إكليل من الزهور على النُصْبِ التذكاري لأبطال الشعب الصيني في بكين، وتنظيم جلسة عمل مع الوزير الأول الصيني، ولقاء رئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، وزيارة مقرّي شركة هواوي العملاقة ومكتبتها المركزية، التي أهداها سعيّد أعمالاً تونسية ذات مكانة تاريخية، على غرار “تاريخ ابن خلدون” ومقدّمته، وكتاب “العمر في المؤلفات والمصنفين التونسيين” للمؤرخ حسن حسني عبد الوهاب، ومؤلّفات الوزير والأديب محمود المسعدي، وأنهى جولته بالتوجّه إلى مقرّ الشركة الصينية “BYD” المتخصّصة في صناعة وسائل النقل البري بالطاقة الكهربائية وبالطاقات الهجينة. أمّا في ما يتعلّق بمُخرجاتها، فقد كانت الزيارة محدودة النتائج، اقتصرت على توقيع مجموعة من مذكّرات التفاهم بشأن إنشاء فريق عمل للاستثمار، وتقوية التعاون الإنمائي، والنهوض بتفعيل مبادرة التنمية العالمية، وفي مجال التنمية الخضراء ومنخفضة الانبعاثات الكربونية، ومذكرة بين التلفزة التونسية ومجموعة الصين للإعلام. كما وُقّع اتفاق تعاون بين الإذاعة الوطنية التونسية والهيئة الصينية للإذاعة والتلفزيون، وآخر بين وكالة تونس أفريقيا للأنباء ووكالة أنباء شينخوا الصينية.
محدودية مُذكّرات التفاهم المُوقّعة وضعفها وفقدانها الجدوى والأهمية، متأتية، كذلك، من غموض بعضها، وعدم تفصيل القول فيها، واقتصار بعضها الآخر على قطاع الإعلام الحكومي، فقد كان على سعيّد أن يصحب في زيارة الدولة التي أدّاها إلى الصين رؤساء الشركات المُهمّة من القطاعَين العامّ والخاصّ لعقد الصفقات الاستراتيجية والمشاريع الكبرى، التي تحتاجها تونس في هذه المرحلة، بدلاً من الاقتصار على فريق عديم الجدوى الاقتصادية والتخطيط والاستشراف الاستراتيجي، يتكوّن من وزيري الخارجية والتجهيز، وثلّة قليلة من مستشاريه. وكان عليه أن يحمل في حقيبته الدبلوماسية خريطةَ طريقٍ تنمويةٍ علاماتها ورواسيها مشاريع عملاقة تبحث عن تمويل أو عن شركات بحجم الشركات الصينية لإنجازها، وهو الذي تحدّث كثيراً عن القطار السريع، الذي يرغب في إحداثه، ويربط مدينة بنزرت في الشمال التونسي بمدينة تطاوين في أقصى الجنوب، وعن المدينة الصحّية بولاية القيروان.
محدودية مُذكّرات التفاهم المُوقّعة وضعفها وفقدانها الجدوى والأهمية، متأتٍ من غموض بعضها، وعدم تفصيل القول فيها، واقتصار بعضها الآخر على قطاع الإعلام الحكومي
كان على الرئيس سعيّد، أيضاً، وانطلاقاً من مبدأ استمرار الدولة، ألّا يتجاهل مُذكّرات التفاهم التي وقّعها رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وبعض وزرائه، مع الطرف الصيني عام 2018، على هامش القمّة الأفريقية – الصينية، أو في أثناء المنتدى الدولي للاستثمار بتونس، وقد جاءت في سياق إعلان انخراط تونس في طريق الحزام والطريق، فهي أكثر واقعية وقابلية للإنجاز، وجدواها الاقتصادية والمالية مُؤكّدة. ومن أهم المُذكّرات التي وقّعت، آنذاك، مُذكّرة تفاهم لإنجاز ثلاث دراسات جدوى فنية واقتصادية لمشاريع تبرورة بمدينة صفاقس والمدينة الإدارية ومترو مدينة نابل، ومُذكّرة تفاهم ثانية لإنجاز الخط الحديدي السريع طبرقة – تونس – رأس جدير، وأخرى، ثالثة، تتعلق بإنشاء المدينة التجارية – الصناعية في ميناء جرجيس التجاري، وتطوير هذا الميناء، وجعله نقطة وصل مع ليبيا والجزائر وأفريقيا جنوب الصحراء، وإنشاء خطّ حديدي يصل الميناء بمدينة قابس، مروراً بمدينة مدنين، التي سيقع ربطها بجزيرة جربة السياحية عن طريق جسر آجيم – الجرف. لم ترَ تلك المشاريع النور، فقد عُرقِلَت وجُعِلَت مُجرّد حبر على ورق من قوى نافذة داخلية وخارجية لها مصلحة في إبعاد الصين عن لعب دور اقتصادي أو مالي في تونس، رغم بلوغ بعضها مرحلة استكمال الدراسات الفنّية، ولكنّها لم تكن من ضمن أولويات الرئيس سعيّد، ولم تُدرجْ في جداول أعماله، فهي ترمز إلى ما أصبحت تُسمّى “العشرية السوداء”، التي يرغب سعيّد في محو آثارها، وكلّ ما يمتّ لها بصلة من الذاكرة الوطنية والجماعية للتونسيين وغير التونسيين.
ومثالاً على ذلك، تحدّث الرئيس سعيّد في أثناء زيارته المكتبة الكبرى لشركة هواوي عن الإرث الدستوري التونسي، منذ دستور قرطاج وحتّى دستور 25 يوليو (2022)، الذي خطّه بيمينه من دون مشاركة من أيّ كان، متناولاً ما سمّاه دستور القرن السابع عشر، وهو دستور وهمي غير موجود، فالأمر يتعلّق بدفتر جبائي، ودستور 1861، الذي وضعه محمد الصادق باي، ونظيره لعام 1959 المنسوب إلى الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، ولكنّه قفز عن دستور الثورة التونسية لعام 2014، وتجاهله، ولم يشر إليه ألبتّة، متناولاً نصَّ 2022 بالشرح والتفسير، رغم أنّ لدستور 2014 الفضل في نشأة الديمقراطية التونسية، التي مكّنت قيس سعيّد من الترشّح والوصول إلى الرئاسة عام 2019، وحكم تونس خمس سنوات، سيكون موفّاها يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل.
سوّقت الزيارة تحت عنوان الدفاع عن السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني، وفتح شراكات استراتيجية خارج روابط تونس التاريخية
وغير بعيد عن مكان عزف ألحان أغنية “تحت الياسمينة في الليل”، من الفرقة الصينية خلال استقبال قيس سعيّد من نظيره الصيني في 31 مايو، كان رؤساء 84 شركة صينية عملاقة، من مختلف المجالات، يعملون على إبرام عقود استثمارية في ليبيا، ويتسابقون لالتقاط الصور التَذكاريّة مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد الدبيبة، على هامش انعقاد أعمال الملتقى الاقتصادي الصيني – الليبي الأول. سيقول بعضهم، لا يجوز المقارنة بين ليبيا الغنيّة بثرواتها، وهي مقبلة على عملية إعمار تتسابق الشركات العالمية للفوز بمشاريعها الإنمائية وإعادة البناء، وتونس التي تعيش حالة ركود اقتصادي مزمن، وأزمة مالية مُتفاقِمة. لكنّ هذا القول لا ينفي عن زيارة سعيّد الصين خلّوها من اصطحاب أهل الذكر، من رجال الأعمال والرؤساء والمديرين العامين للشركات العمومية، لتنظيم لقاءات مع الشركات الصينية، وإبرام العقود معها على قاعدة الاستثمارات الخاصّة أو في إطار الشراكة بين القطاعَين الخاصّ والعامّ، ذلك أنّ أصحاب الشركات ورجال الأعمال وهياكلهم المهنية هم حجر الزاوية في زيارات رؤساء الدول إلى الخارج، إذ يكون الاقتصاد والمال مُحتوى التفاهمات السياسية كافّة.
عدم جدّية ما عُقد من تفاهمات وشراكات استراتيجية مع الجانب الصيني في مجال التنمية الخضراء ومنخفضة الانبعاثات الكربونية، على سبيل المثال، تتجلّى في ما شهده قصر الحكومة التونسية بالقصبة، قبل زيارة الرئيس سعيّد إلى الصين بيوم، من “توقيع مذكرة تفاهم بين الجمهورية التونسية ومجمّع الشركات الفرنسية (توتال للطاقات – TotalEnergies) والنمساوية (فاربوند – Verbund) والتي تتعلق بتطوير وإنجاز مشاريع للهيدروجين الأخضر في تونس”، وفق البيان المنشور في صفحة رئاسة الحكومة التونسية على “فيسبوك”، مضيفاً “تهدف هذه الاتفاقية إلى تطوير وإنجاز مشروع لإنتاج 200 ألف طن من الهيدروجين الأخضر في مرحلته الأولى مع تركيز 5 جيغاواط من الطاقات المتجددة في أفق 2030. ومن المتوقع أن تصل الطاقة الإنتاجية إلى مليون طن سنوياً في المرحلة النهائية للمشروع. هذا، وتبلغ قيمة استثمارات المشروع حوالي ثمانية مليارات أورو في المرحلة الأولى و40 مليار أورو في مرحلته النهائية”. وهذا الاتفاق كافٍ لإعطاء الدليل على أنّ تونس ما زالت أسيرة شراكاتها التقليدية، وهي لا تخلو من طابع هيمني وأسر استعماري مع الاتحاد الأوروبي، الذي سيكون المُستفيد الأول من وراء تلك البرامج ذات الانعكاسات البيئية الخطيرة على تونس، وأنّ ما يُروّج من تنامي نزعة وطنية سيادية يقودها الرئيس سعيّد، وترمز إليها زيارته إلى الصين، هو مُجرّد شعار.
للاستفادة من الصعود الصيني، تحتاج تونس ترجمة المساندة الشعبية إلى اتفاقيات مُلزمة يصادق عليها برلمان يتمتّع بمشروعية شعبية
لقد أفضت زيارة سعيّد إلى الصين، رغم طابعها الاستعراضي الغالب ومنحاها الاحتفالي البيّن، وضعف نتائجها الاقتصادية، إلى بيان ختامي سمته الرئيسية، وفق ما ورد في نقطته الأولى، “تجديد الجانب التونسي التزامه بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2758 الصادر في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1971 الذي يكرّس مبدأ الصّين الواحدة ويُقر بشرعية حكومة جمهورية الصين الشّعبية كممثل شرعي وحيد للصّين بأكملها، وبأن تايوان جزء لا يتجزّأ من الأراضي الصينية، ويدعم ممارسة الصين لسيادتها على كامل أراضيها وجهودها المبذولة لتحقيق وحدة البلاد والدفاع عن مصالحها الجوهريّة، ويدعم موقف الصين في رفضها لأي تدخل أجنبي في المسائل الداخلية المتعلقة بهونغ كونغ وشينجاينغ”. والواقع أنّ هذا الموقف المُؤيّد للصين الواحدة لا يُحسب للرئيس سعيّد، فقد سبقه إليه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وفق مقال “وجود الصين في تونس: أيّ مدى وصل وإلى أين يتّجه”، المنشور في موقع معهد واشنطن في السادس من إبريل/ نيسان 2023. يتعرّض المقال، أيضاً، إلى الخشية الأميركية من العلاقة التونسية – الصينية، التي تأسّست رسمياً في عام 1964، ولكنّها تعود بصفة غير مباشرة إلى اليوم الثاني من أغسطس/ آب 1957، تاريخ إرسال الزعيم الصيني ماو تسي تونغ برقية تهنئة للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، بمناسبة تولّي الرئاسة وإعلان الجمهورية.
لقيت زيارة سعيّد إلى الصين قبولاً شعبياً وإشادة من الرأي العام التونسي، في موجة تأييد واسعة اكتسحت مواقع التواصل الاجتماعي، رافقتها نقاشات ومتابعات دقيقة من وسائل الإعلام التونسية. فقد سُوّقت الزيارة تحت عنوان الدفاع عن السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني، وفتح شراكات استراتيجية خارج روابط تونس التاريخية ومعاهداتها مع القوى الغربية التقليدية، مثل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لعام 1995، ومُذكّرة التفاهم مع الولايات المتّحدة لعام 2015، التي تجعل من تونس حليفاً من خارج حلف الناتو. وهي نصوص لم يبادر سعيّد إلى مراجعتها أو إلغائها، مقابل الشراكة الاستراتيجية التونسية الصينية الجديدة، فلا يمكن الدخول في شراكات مُتعدّدة مع أقطاب وقوى دولية متناقضة ومتصارعة إلى درجة الحرب الباردة، كما هو الشأن في العلاقة الأميركية الصينية، بسب الموقف من تايوان. ويعود التأييد الشعبي التونسي المساند للزيارة الرئاسية إلى ما يستبطنه التونسيون من فِكَرٍ إيجابيةٍ حول جمهورية الصين الشعبية، فهذه الدولة غير مُثقلةٍ بإرث استعماري أو بعدوان إمبريالي أو بحروب وبقتلٍ لملايين البشر، على غرار ما فعلته فرنسا في الجزائر (1830-1962)، والولايات المتّحدة في العراق (1991-2003)، هذا، زيادة على نصرتها للقضايا العادلة وقوى التحرّر الوطني، وخاصّة القضية الفلسطينية، وتدخّلاتها التنموية الناجعة في أفريقيا وآسيا وأوروبا، فكلّما أُنجز مشروع عملاق في مكان ما من العالم، كانت الصين من وراء إنجازه.
وللاستفادة من الصعود الصيني، تحتاج تونس ترجمة المساندة الشعبية للانفتاح على التنّين الصيني إلى عقد اتفاقيات مُلزمة يصادق عليها برلمان يتمتّع بمشروعية شعبية ومصداقية، ويدعم برنامجاً حكومياً جديّاً مُتعدّد المراحل لبناء تونس الجديدة، خارج مقاربات الهيمنة التقليدية، وبعيداً عن الشعارات المُضلّلة، ولعبة الأضواء الحارقة، وإغواء السجّاد الأحمر.