رأي

الرسوم تعيد التموضع العالمي

كتب علي قباجة, في الخليج:

لم تعد القرارات الصادرة عن واشنطن تُفهم ضمن أُطرها الاقتصادية أو القانونية التقليدية فحسب؛ بل باتت تُقرأ كجزء من مشهد أوسع يحمل أبعاداً استراتيجية وأيديولوجية تعيد رسم ملامح النظام الدولي. وفي هذا السياق، يمكن فهم قرار الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية على أكثر من 70 دولة، ليس كمجرد إجراء اقتصادي؛ بل كدلالة على تحوّل في الرؤية الأمريكية لدورها في العالم.
هذا القرار لا يعبّر عن تغيير في السياسة التجارية فقط؛ بل يُشير إلى انزياح في العقل السياسي الأمريكي نحو مقاربة تُركّز على المصلحة القومية المباشرة، وتتجاوز الاعتبارات التقليدية للعلاقات بين الحلفاء والشركاء؛ إذ لم تقتصر الإجراءات الجمركية على دول منافسة مثل الصين؛ بل شملت أيضاً حلفاء تقليديين مثل كندا وسويسرا والمملكة المتحدة، ما يعكس تراجعاً في منطق التمييز بين الشريك والمنافس.
استخدام الرسوم الجمركية أداة ضغط لا يمكن فصله عن السياق الأوسع للتحوّلات التي يشهدها النظام الدولي، فالتجارة، في هذا الإطار، لم تعد ساحة للتبادل المتوازن، وإنما تحوّلت إلى أداة للتفاوض السياسي، وربما لإعادة ترتيب قواعد الشراكة والتحالف، وهذا يدفع إلى التساؤل: هل ما يحدث تعبير عن سياسة ظرفية، أم بداية لتحوّل استراتيجي أوسع؟
في الداخل الأمريكي، أثار هذا التوجه نقاشاً قانونياً ودستورياً حول حدود الصلاحيات التنفيذية؛ إذ وُوجهت بعض الإجراءات بطعون أمام المحاكم الفيدرالية، بدعوى تجاوز السلطة التنفيذية لصلاحياتها، ما يُبرز تبايناً في وجهات النظر داخل المؤسسات الأمريكية نفسها بشأن آليات اتخاذ القرار واتجاهاته، ومن منظور أوسع، فإن هذه السياسات ستفضي إلى إعادة تعريف العلاقة بين الدولة الوطنية والعولمة، فحين تُقدَّم المصلحة القومية كأولوية مطلقة، على حساب المبادئ المشتركة، فإن ذلك يفتح الباب أمام مقاربات جديدة في السياسة الدولية، قد تعيد تشكيل التكتلات والتحالفات العالمية.
اللافت أن هذه التحولات تأتي في وقت يشهد فيه النظام العالمي تصاعد الشعبوية وتراجع الثقة بالمؤسسات الدولية، وقد لا تكون سياسات كهذه معزولة أو شاذة؛ بل تأتي انعكاساً لتحولات أعمق في المزاج السياسي العالمي، تسعى فيه الدول الكبرى إلى إعادة تعريف أدوارها ومصالحها في عالم لم يعد يشبه ما كان عليه بعد الحرب الباردة.
ما نشهده اليوم هو لحظة مفصلية في التاريخ الدولي، تُمتحن فيها مفاهيم؛ مثل التعددية، والعدالة الاقتصادية، والتعاون الدولي. ومهما اختلفت الآراء حول سياسات واشنطن، فإن المؤكد أن العالم يتجه نحو مرحلة جديدة، تُعيد فيها الدول الكبرى رسم أولوياتها، وتُعاد فيها صياغة قواعد اللعبة الدولية، لتتوافق مع واقع عالمي يتسم بعدم اليقين، والتنافسية الحادة، والسعي المستمر إلى إعادة التوازن.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى