الديون المحلية… فقاعة على وشك الانفجار في وجه الصين.
يواجه اقتصاد الصين الثاني في العالم مشكلة كبرى لا تحظى بتغطيات الإعلام الخارجي مثلما يحدث مع أزمة القطاع العقاري الصيني، هي تراكم الديون على الحكومات المحلية في المقاطعات والمدن الصينية.
تحاول الحكومة المركزية في بكين التعامل مع تريليونات الدولارات من الديون المحلية بطريقة لا تؤدي إلى انفجار الفقاعة بشكل كارثي وإنما التخلص منها بطريقة تدرجية.
وبحسب تقديرات بنك “غولدمان ساكس” الاستثماري يصل حجم الديون المحلية على المقاطعات والمدن الصينية إلى 94 تريليون رينمينبي (13 تريليون دولار)، وتلك هي الديون الإجمالية التي تضم الدين الرسمي المسجل في كشوف حسابات وميزانيات تلك المقاطعات والمدن والإدارات المحلية الأخرى، إضافة إلى قروض تصل إلى 59 تريليون رينمينبي (ثمانية تريليونات دولار) مما يسمى “الدين الخفي”، أي الديون المتراكمة على المحليات لصناديق تمويل مشروعات الإدارات المحلية، وهكذا يبدو الدين الرسمي في دفاتر المكاتب المالية للإدارات المحلية في حدود 25 تريليون رينمينبي (3.5 تريليون دولار)، بينما إجمالي الدين الفعلي يقارب أضعاف ذلك الرقم.
لأن القدر الأكبر من تلك القروض والديون كان لتمويل مشروعات بنية تحتية مثل الكباري والجسور والطرق وغيرها، فقد استمر ضخ الاستثمارات فيها لسنوات ولا يتوقع منها عائد قريب.
واعتمدت الإدارات المحلية في توفير جزء من التمويل على بيع الأراضي، أكبر الأصول التي تخضع لسيطرتها، لكن ذلك المصدر للموارد تضاءل حتى كاد ينتهي.
بنية تحتية وصناديق وبيع أصول
تعاني الحكومات المحلية في كل المقاطعات الصينية تقريباً تراكم الديون التي تشكل نسبة العجز في ميزانياتها، وكان جرس الإنذار القوي في شأن فقاعة دين الحكومات المحلية في الصين انطلق في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عندما أوشكت الإدارة المحلية في مدينة زوني، ثاني أكبر مدن إقليم غويجو، على الإفلاس المالي مع تخلفها عن سداد استحقاقات ديون في موعدها.
يعد إقليم غويجو واحداً من بين 10 مقاطعات وأقاليم صينية مثقلة بالديون بشدة نتيجة فقر الموارد المحلية فيها، وكان الإقليم، الذي تغلب عليه المناطق الجبلية، الأفقر من بين تلك الأقاليم غير المحظوظة قبل عقود قليلة، لكنه أصبح في الفترة الأخيرة مشهوراً بأن شيد فيه أطول الجسور والكباري وأعلاها في العالم، ففي هذا الإقليم كوبري يزيد ارتفاعه على نصف كيلومتر (565 متراً) فوق نهر دوج بيبان، ويربط الجسر ما بين الإقليم وإقليم يونان المجاور. وفي ذلك الإقليم أيضاً جسر بينغتاغ الذي يبلغ ارتفاعه 332 متراً ويمتد عبر المنحدرات فوق مسار نهر كاودو، وحولت تلك الاستثمارات الإقليم من كونه الأفقر من بين أقاليم الصين إلى نموذج استثمار لاقى الاستحسان من القيادة المركزية في بكين، إلا أن تلك المشروعات المبهرة راكمت ديوناً على حكومة الإقليم بلغت 1.2 تريليون رينمينبي (165.7 مليار دولار) بنهاية العام الماضي 2022.
وبلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 62 في المئة، ليصبح إقليم غويجو أكثر أقاليم الصين مديونية عامة، وإذا أضيفت ديون الإقليم الخفية، التي تأتي من الصناديق وشركات الاستثمار التي تبني مشاريعها بالدين الآجل في صورة سندات، تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي إلى 137 في المئة.
تلك الصناديق وشركات الاستثمار هي كيانات أنشأتها الحكومة لتمويل مشروعات الأقاليم خارج كشوف الحسابات الجارية وميزانيات الإدارات المحلية. ويقول عنها كبير استراتيجي الاستثمار في وحدة إدارة الأصول ببنك “بي أن بي باريبا” في هونغ كونغ شي لو “تعد تلك الصناديق وشركات الاستثمار من بقايا نموذج النمو القديم الذي يعتمد على توسع العرض في الاقتصاد استناداً إلى استثمارات مكثفة لتوفير فرص العمل والدخل… والآن تتغير تركيبة النمو الاقتصادي في الصين، وهكذا أصبحت أدوات التمويل القديمة التي تغذي الاقتصاد القديم وكأنما عفا عليها الزمن”.
تطور الأزمة
كانت الحكومة الصينية أنشأت أول صندوق من تلك الصناديق وشركات الاستثمار المحلية عام 1998 ليتولى تمويل إنشاء طريق سريع في البلاد، ثم توسعت في إنشاء تلك الصناديق عام 2009 مع طرح الحكومة المركزية خطة تحفيز بقيمة أربعة تريليونات رينمينبي (550 مليار دولار) لتشجيع النمو في الأقاليم، ومولت البنوك الصينية تلك الصناديق وشركات الاستثمار باعتبار سندات دينها مأمونة لأنها مضمونة حكومياً.
وبدأت أزمة ديون الحكومات المحلية في الصين تنكشف مع أزمة وباء كورونا والإغلاق الاقتصادي في الصين كما في بقية دول العالم، فمع زيادة الإنفاق الحكومي بشكل كبير نتيجة الإغلاق تراجعت عمليات بيع الأراضي في الأقاليم والمقاطعات بشدة، بالتالي فقدت الحكومات المحلية المصدر الرئيس للدخل غير نصيبها في الميزانية العامة من الحكومة المركزية، وهكذا ارتفعت فجوة العجز في الميزانية، فضلاً عن تراكم الديون المسماة “صناديق تمويل الحكومات المحلية”.
وبحسب تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” استند إلى وثائق وتقارير حكومية صينية غير معلنة، زاد خناق أزمة ديون الإدارات المحلية للمقاطعات والمدن وتوشك حالياً على الانفجار مع الكم الهائل من مدفوعات خدمة الديون المستحقة على تلك الإدارات هذا العام 2023 والعام المقبل 2024، وهو ما دفع الحكومة المركزية في بكين إلى العمل على إيجاد حل لتلك الديون، إلا أن معظم الحلول المطروحة ربما لا تتمكن من تفادي حدوث أزمة.
يقول أستاذ الاقتصاد السياسي الصيني في جامعة كاليفورنيا فيكتور شيه “أخذت الديون المحلية (في الأقاليم الصينية) في الارتفاع بطريقة غير خاضعة للسيطرة… وأصبح اعتماد الحكومات والإدارات المحلية على الحكومة المركزية وإصدار سندات الدين يتحول من السيئ إلى الأسوأ باضطراد وبشكل سريع جداً”.
حلول صعبة
في محاولة التدخل من الحكومة المركزية في بكين لمنع انفجار فقاعة الديون المحلية، تعهدت هيئة تنظيم الأوراق المالية الصينية الأسبوع الماضي بأنها ستعمل على منع التخلف عن سداد سندات دين تلك الصناديق وشركات الاستثمار التي تمول مشروعات البنية التحتية والحكومات المحلية. وأرسل البنك المركزي ووزارة المالية وهيئة الأوراق المالية فرقاً من المسؤولين إلى الأقاليم الأكثر مديونية لمراجعة أوضاعها المالية والوقوف على سبل خفض ديونها لمنع أزمة كارثية.
وبحسب وثائق الحكومة ستفحص تلك الفرق وتدقق حسابات الميزانية لتلك الأقاليم والإدارات المحلية وتقرر أفضل طريقة للتخلص من الأصول الرديئة وخفض معدلات المديونية، وبالفعل استعانت الحكومة بما في ذلك رئيس الوزراء الصيني لي كيانغ بعلماء ومتخصصين لوضع تصور لمعالجة تلك الأزمة.
من بين المقترحات المطروحة لإعادة هيكلة دين الصناديق وشركات التمويل الأكبر حجماً سندات دين حكومية رسمية، إلا أن خبراء منهم وزير المالية الصيني السابق لو جيوي يرون أن عملية المبادلة تلك لن تحل المشكلة إنما فقط تؤجلها وقد تزيد من تفاقمها.
هناك اقتراح آخر بإعادة هيكلة الديون عبر زيادة أجلها إلى ما بين 25 و30 عاماً مع خفض نسبة الفائدة عليها، وفي تلك الحالة ستتحمل البنوك في النهاية عبء تكاليف إعادة هيكلة الديون الهائلة، وتلك الأخطار جعلت بعض المؤسسات والبنوك الاستثمارية الكبرى تعيد تقييم التصنيف الائتماني للبنوك الصينية الأكثر انكشافاً على تلك الصناديق وشركات التمويل، فعلى سبيل المثال ستؤدي إعادة هيكلة نسبة 10 في المئة من ديون الصناديق المستحقة للبنوك إلى انخفاض أرباح تلك البنوك بنسبة ستة في المئة.
بيع الأصول
أما الطريقة الأسهل فهي خفض معدلات الدين عبر بيع الأصول، وهناك من يرى أنه إذا كان حجم الدين على الإدارات المحلية رسمياً يصل إلى خمسة تريليونات دولار فإن لدى تلك الحكومات أصولاً تزيد قيمتها على ستة أضعاف ذلك الدين (نحو 30 تريليون دولار)، بحسب ما ذكرت مجلة “نيوزويك” هذا الشهر، لكن تظل المشكلة أن بيع الأصول ليس بالأمر السهل والسريع، وأن العائد من بيعها ربما يكون أقل من قيمتها بكثير لأنه بيع تحت ضغط التسييل الطارئ لتوفير الأموال.
يقول مدير خدمات المستثمرين في مؤسسة “موديز” للتصنيف الائتماني إفان شونغ “إن افتراض الحكومة المركزية أن الأصول تساوي أكثر من المطلوب لتسديد الديون قد يكون صحيحاً إلى حد ما، إلا أن الأمر يتعلق بمدى سرعة تحويل تلك الأصول إلى أموال، بخاصة في الأقاليم الغربية ذات الاقتصاد الضعيف”.
ثم هناك أيضاً مشكلة تتعلق بالخلاف بين الحكومات المحلية في الأقاليم والحكومة المركزية في بكين، فضغط بكين لحل مشكلة الديون بتوفير موارد ذاتية مثل بيع الأصول لا يلقى قبولاً لدى الإدارات المحلية، التي غالباً ما تقوم بتلك المشاريع لأسباب سياسية. وبحسب ما يقول مسؤول كبير في بنك حكومي صيني، فإن “العقلية التي تحكم تصلب مواقف الأقاليم سياسية بالأساس، فتلك الجسور والكباري والطرق شيدت بغرض زيادة معدلات النمو المحلية وخفض معدلات الفقر، لذا تتساءل القيادات المحلية عن سبب قيام الحكومة المركزية الآن بالمطالبة بتحمل كلفها كاملة”.
ووصل الأمر حالياً في بعض الأقاليم إلى أن أعباء خدمة الديون تكاد تفلس الإدارات المالية في تلك المناطق، حتى إن بعض موظفي الحكومة أصبحوا قلقين في شأن حصولهم على رواتبهم في غير مواعيدها الشهرية، ويشكل ذلك قلقاً إضافياً للحكومة الصينية المركزية في بكين بخاصة إذا تفاقمت الأزمة.