رأي

الديمقراطية أمام امتحان السياسة في المغرب… الموت أو‮ ‬التدنّي

كتب عبدالحميد اجماهيري في صحيفة العربي الجديد.

تعالت الأصوات‮ ‬في‮ ‬المغرب، أخيراً، للتحذير من نهاية بائسة للسياسة‮. ‬وتعدّدت توصيفات الساسة والباحثين هذا الحال، ‬وفي‮ ‬بيانات مراكز ‬التفكير، وجزء مهم من الطبقة المثقّفة‮. ‬وإذا كان السياق الحالي‮ ‬يبعث على ذلك باعتبار أنه‮ ‬يساير دعوة العاهل المغربي‮، محمد السادس، ‬من أجل النظر في‮ ‬المنظومة الانتخابية الحالية،‮ ‬فإن الشعور بأن السياسة في‮ ‬البلاد تتدحرج نحو الأسفل،‮ ‬حتى‮ ‬على لسان الأكثر تفاؤلاً وفي‮ ‬أوساط المثقّفين صنّاع الرأي‮ ‬العام،‮ ‬وضمن المفكّرين الدستوريين والديمقراطيين من الذين ساهموا في‮ ‬كتابة وثيقة الدستور الجديد‬،‮ ‬المنبثق عن فورة “الربيع المغربي”‮ ‬قبل‮ ‬14‮ ‬سنة. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬وقد استأثر عبد الله ساعف باهتمام كبير في‮ ‬أوساط النشطاء السياسيين لما عبّر عنه من آراء صادمة‮. ‬وهو شخصية‮ ‬تؤخذ آراؤها بكلّ جدية،‮ ‬باعتباره مناضلاً‮ ‬يسارياً واضحاً،‮ ‬وأحد الساسة الذين‮ ‬يحظون بالاحترام، ووزير سابق،‮ ‬وكان أحد الذين كتبوا وثيقة‮ ‬الدستور في‮ ‬الجانب المتعلّق بالسياسة مجال الحكامة‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وقد استيقظ جزءٌ من الفاعلين على صيحته‮ ‬في‮ ‬نهاية الأسبوع، أن السياسية تتدنّى إلى أسفل درجاتها في‮ “‬ترتيب الجدّية” ‬في‮ ‬المغرب،‮ ‬وأن البلاد تعيش بالحدّ الأدنى‮ ‬منها‮. ‬وأن زواج المال والسلطة فتح شهية جديدة لقضم الديمقراطية في‮ ‬الحكامة… وما إلى ذلك من آراء‮ ‬تُتداول باهتمام.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ وفي‮ ‬الوقت نفسه،‮ ‬يتحدّث المدافعون عن مزيد من الديمقراطية والشفافية والمحاسبة عن دورة سياسية جديدة، وإن لم نقل عن‮ “‬نموذج سياسي‮ ‬جديد”‬،‮ ‬يقطع مع عثرات ما تراكم منذ التصويت على المسار الدستوري‮ ‬الجديد. والذي‮ ‬لم‮ ‬يلقَ بعد التطبيق ‬المتوخّى في‮ ‬إصلاح الأعصاب الوطنية‮. ‬وما‮ ‬يحيل على خلفية مضمرة في‮ ‬الشعور الجماعي‮ ‬بأن الرهان السياسي‮ ‬يتضاءل في‮ ‬الفضاء العمومي،‮ ‬وأحد‮ ‬تمظهراته انصراف الرأي‮ العام عن النقاشات الدائرة في‮ ‬الرقعة السياسية، بالرغم من أهمية دعوة الملك إلى‮ ‬مناقشة المنظومة الانتخابية،‮ التي‮ ‬من نتائجها أنها‮ “‬تختار‮” ‬للملك ‬الشخصية السياسية التي‮ ‬ستشاركه ‬السلطة وتنفيذ الدستور‮ ‬وإدارة جزءٍ مهمٍّ من مؤسّسات الدولة وأذرعها‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الطعن السياسي‮ ‬في‮ ‬الانتخابات‮ ‬يكاد‮ ‬يكون لازمةً تطارد التعددية المغربية الناشئة

ومن دون التوقّف مطوّلاً عند تفاصيل كل واحدةٍ من مراحل المغرب الحديث،‮ ‬يمكن أن نُسطّر على أهمية الرهانات السياسية للانتخابات،‮ ‬في‮ ‬بلادٍ كانت التمثيلية فيها تخضع لنوعٍ من التعيين الذي‮ ‬يقوم به القصر‮‬‮ ‬بناء على تمثلات سوسيومهنية متنوّعة ‮(‬قبيلة،‮ ‬زاوية‮،‮ ‬تجّار،‮ ‬فلاحون،‮ ‬شرفاء‬،‮ ‬قضاء‬،‮ ‬رجال دين… إلخ)‬، ‬ونسطّر على أهمية الانتخابات‮ ‬في‮ ‬بناء الشرعية الديمقراطية للنظام السياسي،‮ ‬النابعة من تعاقد بين الحركة الوطنية والملكية على قاعدة معركة الاستقلال‮ (‬في‮ الأربعينيّات‮) ‬أو على قاعدة‮ ‬استكمال الوحدة الترابية‮ (‬سبعينيّات القرن الماضي‮ ‬واسترجاع الصحراء‮)‬،‮ ‬وما تفرَّع منه من مواقف وتوقّعات سياسية،‮ ‬همّت بالأساس الصراع على طبيعة الدولة التي‮ ‬يجب بناؤها بعد الاستقلال ودور المشاركة الشعبية فيها‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وبهذا المعنى،‮ ‬شكّلت الانتخابات ‬دوماً لحظة صراع حادّ،‮ ‬حتى أن القوى المنبثقة عن الحركة الوطنية سمّتها “المعركة‮” ‬عوض الموعد الديمقراطي‮ ‬العادي‮. ‬وهو صراعٌ لم‮ ‬يكن‮ ‬يدور‮ ‬فقط‮ ‬بين الدولة والحركات السياسية‮ (‬سيّما المعارضة منها ممثلة في‮ ‬حزب الاستقلال والاتحاد الوطني، والاتحاد الاشتراكي‮ ‬للقوات الشعبية، والحزب الشيوعي‮ ‬المغربي، وحزب التقدّم والاشتراكية حالياً)، ‬بل دار أيضاً بين فصائل المعارضة نفسها‮ ‬داخل المدرسة السياسية الواحدة، كما حصل في‮ ‬أوساط القوى التقدّمية‮ ‬مثلاً، ما تولد منه‮ ‬يسار راديكالي‮ ‬يتوخّى العنف في‮ ‬التغيير، ‬وقوى الإسلام الحزبي‮ لاحقاً.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ وقد استأثرت القضية‮ ‬بالنقاش الأيديولوجي‮ ‬والسياسي‮ ‬ذي‮ ‬الصلة بشرعية النظام من عدمها،‮ وفيه استنفدت قوى اليسار‮ ‬والإسلام الحزبي‮ ‬مثلاً جزءاً من عمرهما في‮ ‬النقاش بشأن المشاركة من عدمها‮. ‬وكان الداعون إلى المقاطعة‮ ‬يعلّلون مواقفهم بأن الانتخابات تعطي‮ ‬للنظام شرعية هو‮ ‬ليس أهلاً لها‮!‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
في‮ ‬الموازاة،‮ ‬جرت استحقاقات سياسية مُتعبة وصعبة،‮ ‬تميّزت إدارة الدولة لها بالتدخّل المباشر،‮ ‬والتزوير العملي‮ ‬لنتائج الاقتراع،‮ ‬وإقامة الأحزاب ‬باعتبارها امتداداً للإدارة في‮ ‬معالجة ‬الصراع،‮ ‬ومن ذلك إنشاء حزب التجمّع الوطني‮ ‬للأحرار‬،‮ ‬التي‮ ‬ترأّسه صهر الملك، أحمد عصمان،‮ ‬في‮ ‬منتصف السبعينيّات‮، ‬كما ولدت أحزاب من بعد‮ ‬في‮ ‬الثمانينيّات من قبيل حزب الاتحاد الدستوري‮، ‬الذي‮ ‬تزعّمه قيادي‮ ‬سابق في‮ ‬المعارضة الراحل المعطي‮ ‬بوعبيد. ‬وتناسلت الأحزاب التي‮ ‬نعتتها المعارضة بالأحزاب الإدارية‮‬، ‬وهو نعتٌ قدحيٌّ‮ ‬للقول إنها تولد في‮ ‬مختبرات الدولة،‮ ‬وتتلقّى الدعم‮ ‬الكامل ‬منها، بما في‮ ‬ذلك استجلاب المرشحّين ومن ‬يتقدّمون باسمها، وقد تجاوز عددها 30 حزباً. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ويمكن القول إن إجراء ‬الانتخابات‮ ‬في‮ ‬هاته المراحل اقتضى إنشاء أحزاب في‮ ‬كل موعد انتخابي‮‮ ‬يسبق تشكيل الحكومة. ‬‬‬‬‬وطوال هذا المسار المعقّد والمتشابك،‮ ‬كان الطعن السياسي‮ ‬في‮ ‬الانتخابات‮ ‬يكاد‮ ‬يكون لازمةً تطارد التعدّدية المغربية الناشئة الطامحة إلى تأسيس ديمقراطيةٍ مقبولةٍ من الجميع.‬ ولم‮ ‬يتم تجاوز هذه المعضلة،‮ ‬إلا بعد الترتيبات السياسية لمجيء المعارضة إلى الحكم‮ أو المشاركة فيها‮ ‬عن طريق حكومة التناوب التوافقي‮ (‬المبني‮ ‬على توافق بين الملك الراحل الحسن الثاني‮ ‬والمعارضة سيّما الاشتراكية، ممثلة في‮ ‬عبد الرحمن اليوسفي‮)، ‬من دون الاحتكام الكلّي‮ ‬لحكم صناديق الاقتراع‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وكان‮ ‬رهان انتخابات ‮ ‬1997‬المعنية بهذا الترتيب،‮ ‬وقتها إيجاد عتبة لتوافق سياسي‮ ‬لإخراج المغرب من السكتة القلبية التي‮ ‬كانت تتهدّده،‮ ‬باعتراف الملك الراحل نفسه،‮ ‬ما أعطى لها رهاناً جوهرياً،‮ ‬يقوم على إخراج البلاد من خطر السكتة، ويهيئ الظروف لانتقال الحكم إلى الملك محمّد السادس‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وكانت أولى انتخابات في‮ ‬العهد الجديد (2002) لحظة حاسمةً في‮ ‬ضرورة إصلاح سياسي‮ ‬يدور حول الانتخابات بالذات‮، ‬فقد كانت نتائجها لصالح‮ ‬الحزب الذي‮ ‬يقود التناوب التوافقي‮‮ ‬بزعامة الفقيد اليوسفي (‬الاتحاد الاشتراكي‮)، ‬ولكن الترتيب السياسي ‬المستند على حقّ دستوري‮ ‬للملك،‮ ‬بمقتضي‮ ‬دستور1996‮ ‬ المصادق عليه بالإجماع‮ ‬للمرّة الأولى في‮ ‬تاريخ الدستورانية المغربية منذ الاستقلال‬،‮ ‬ذهب الى إسناد مسؤولية الحكومة لرجل تكنوقراطي‮ ‬من خارج التنافس السياسي‮ ‬الانتخابي‮، هو إدريس جطّو. ‬وعليه،‮ ‬أصدر الحزب الذي‮ ‬ضاعت منه شرعية صناديق الاقتراع بلاغاً‮ (بياناً) ‬أصبح تاريخياً،‮ ‬كتبه الشاعر والروائي‮ ‬محمد الأشعري،‮ ‬يعلن رفضه‮ “‬الخروج عن المنهجية الديمقراطية” ‬في‮ ‬تعيين الوزير الأول‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ وهو المصطلح الذي‮ ‬لخّص وقتها معضلة الدستور في‮ ‬علاقته بالفعل السياسي‮ ‬الشعبي‮.‬‬‬‬‬ ‬وذهبت تحاليل كثيرة إلى القول بموت السياسة بهذا التعيين‬،‮ ‬وترتّب من‮ ‬ذلك لحظة نفور انتخابي‮ ‬كبيرة،‮ ‬تبين أثرها داخل البلاد‮. ‬وارتفعت الدعوات إلى تجاوز لحظة العجز‮ ‬الديمقراطي‮ ‬الذي‮ ‬دخلته البلاد، ‬وما مسّ جدوى الاستحقاق الانتخابي‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وبالرغم من تراكم التطوّرات الإصلاحية الكبرى في‮ ‬البلاد،‮ ‬ظلّت تنتظر لحظة تقويم هذا العجز،‮ ‬وحدث ذلك في‮ ‬دستور‮ 1102، الذي‮ ‬تزامن مع الفصل المغربي‮ ‬من‮ “‬الربيع العربي‮”. ‬ومنذئذ، ‬اتخذت الانتخابات‮ ‬طابع الرهان السياسي‮ ‬المركزي‮ ‬في‮ ‬الحياة الوطنية‮. ‬بل كان الدستور عربوناً لحدوث قطيعةٍ في‮ ‬دلالة الانتخابات،‮ ‬نظراً إلى “الإكراهَيْن‮” ‬اللذين فرضهما‮: ‬إكراه‮ ‬يقوم على احترام المنهجية الديمقراطية من الملك وضرورة الامتثال لها،‮ ‬وإكراه‮ ‬يخصّ الطبقة السياسية‮ ‬التي‮ ‬لم‮ ‬يعد بإمكانها الوصول إلى فضاء السلطة ومواردها إلا عبر الانتخابات‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ومن الرهانات الكبرى للانتخابات المنظّمة تحت مظلته،‮ ‬كان الرهان السياسي‮‮ ‬المرافق لها‮ ‬يتمثل في‮ ‬استيعاب الإسلام الحزبي‮ ‬ممثلاً في‮ ‬حزب‮ العدالة والتنمية،‮ ‬وتسيير تطبيعه داخل حقل سياسي‮ ‬ظلّ محكوماً بثنائية تاريخية‮ (‬أحزاب ‬الحركة الوطنية تمثّل المجتمع وأحزاب الإدارة تمثّل الدولة وهي‮ ‬أدواتها في‮ ‬الصراع وضبط الحقل السياسي‮). ‬هذا العنصر الذي‮ ‬جاءت به موجات “الربيع” واحداً من أشكال التعبير المجتمعي،‮ ‬أصبح‮ ‬التعامل معه مطروحاً على أجندة النخب وأجندة الدولة بشكل مباشر في‮ ‬سياسي‮ ‬توتري‮ ‬عارم‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وانبنَت‮ ‬معادلاتٌ كثيرة حول وجوده إمّا بالصراع أو بالتوافق‮.‬ وظلّ رهانه حاضراً خلال دورتَين انتخابيتين (‮ ‬2011 و2016‮‬)،‮ ‬ومع سقوط ممثله‮ ‬حزب العدالة والتنمية في ‮‬2021،‮ ‬تغيّرت معطيات الرهان السياسي‮ ‬للانتخاب‮.‬ ‬ولعلّ المتتبع، وكذا الفاعل الحزبي‮ ‬الملتزم، يطرح سؤال الرهان السياسي‮ ‬للانتخابات الذي ‬أعطى الملك انطلاقة التحضير لها في‮ ‬خطاب العرش أخيراً،‮ ‬عندما طلب من وزارة الداخلية فتح مشاورات سياسية موسّعة مع المعنيين بالاستحقاقات البرلمانية المقبلة‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وقد وقف كثيرون عند تغيير العرف المعتمد في‮ ‬مثل هاته الأوضاع‮ ‬عبر تعيين وزير الداخلية بمهمة سياسية في‮ ‬جوهرها،‮ ‬سيّما أن الطبقة السياسية اعتادت إسناد الإشراف إلى‮ ‬رئيس الحكومة‮ (‬عبد الإله بنكيران‮‬،‮ ‬وسعد الدين العثماني‮ ‬في‮ ‬وقت سابق، إذا اقتصرنا على آخر استحقاقيْن).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ولم‮ ‬يصدُر أي‮ ‬موقف من الحزب الذي‮ ‬رأس الحكومة للدفاع عن‮ “‬المنهجية الدستورية‮”، ‬مثلاً في‮ ‬الحفاظ على هذا العرف السياسي‮‮، ‬كما لم تعلّق الأحزاب السياسية على القرار،‮ ‬وانخرطت في‮ ‬المشاورات‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ويختلف سقف الانتظارات والمطالب ‬بين الإصلاح التقني‮ ‬للانتخابات‮ ‬وسقف التغيير الجوهري‮ ‬في‮ ‬وظيفتها وطريقة تنظميها‮. ‬كما‮ ‬يختلف النقاش حول مصداقيّتها‬،‮ ‬ونجاعتها،‮ ‬في‮ ‬غياب رهانات سياسية واضحة،‮ ‬مثلما جاء أعلاه.‬‬‬‬‬‬‬‬‬ تجاوز الطعن الأخلاقي‮ ‬الذي‮ ‬أشهره‮ ‬الفاعلون السياسيون، ومنهم حزب المعارضة الأول، الاتحاد الاشتراكي‬،‮ ‬نظراً إلى ما تم تسجيله من حالات فساد انتخابي‮ ‬فاقت الأوضاع السابقة،‮ ‬وأدّت إلى اعتقالات واسعة وسط المنتخبين،‮ ‬ونظراً إلى حضور المال الفاسد فيها،‮ ‬والاتهامات التي‮ ‬طاولت بعض رجال السلطة في‮ ‬ترتيب النتائج. ‬أمّا الخوف من ديمقراطية الأثرياء وزواج السلطة والمال بطريقةٍ لا‮ ‬يطاولها القانون،‮ فأصبح‮ ‬يهدّد الديمقراطية نفسها،‮ ‬وضمور الوازع المبدئي‮ ‬والفكري‮ ‬والسياسي‮ ‬في‮ ‬تحريك منافساتها،‮ ‬يهدّد بقتل الأحزاب نفسها وتفويض تسيير التعدّدية لأصحاب المال‮ (‬أصحاب الشكارة عند المغاربة)، ‬وبلغة السؤال‮: ‬هل ستقبل الأحزاب بقتل نفسها من أجل مقاعد تحصل عليها بلاعبين لا‮ ‬يربطها بهم أي‮ ‬رابط سياسي‮ ‬أو فكري‮ ‬أو مشروع مجتمعي‮ ‬أو تعاطف أخلاقي؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أحد رهانات النقاش السياسي‮ ‬اليوم إعطاء الانطلاقة لدورة سياسية جديدة،‮ تجاري الأفق المغربي‮ ‬للسنوات المقبلة

هناك نفور وعزوف كبير، ‬فقد أصبح من الصعب،‮ ‬إِنْ‮ ‬لم نقل من المتعب جدّاً، إعادة ربط الالتزام السياسي‮ ‬بالعملية الانتخابية‮. ‬وإذا كان من‮ ‬البديهي‮ ‬في‮ ‬الذهنية العامة أن الفصل بينهما‮ ‬في‮ ‬بلاد عرفت أزيد من‮ ‬12‮ ‬اقتراعاً انتخابياً،‮ ‬وستين سنة من التعدّدية والانتخابات، أمر مستغرب،‮ ‬فإن واقع الأمر‮ ‬يظهر جلياً أن هناك قطيعة بين الوعي‮ (‬ومن ثمّة الفعل السياسي‮)‬ ‬وصيغته الانتخابية أو الانتخابات صيغةً لممارسة الالتزام السياسي،‮ ‬هاته القطيعة متعدّدة الوجوه وعميقة ومقلقة‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ وهناك فصل بين المواطن والناخب‮، ‬هناك‮ ‬يد للداخلية فيها لوضع مسافة بين المواطن‬،‮ ‬الذي‮ ‬هو كائنٌ سياسي‮ ‬بالقوة‮‮ ‬قبل الفعل، والمواطن السياسي‮ ‬بالقوة والفعل‮: ‬عدم اعتماد بطاقة التعريف الوطني،‮ ‬التي‮ ‬تثبت المواطنة كاملة في‮ ‬التصويت‮ ‬الأوتوماتيكي‮. ‬وهو دعم للفتور أو النفور الانتخابي‮ ‬بالرغم من سقوط مبرّرات‮ ‬عدم تعميمها في‮ ‬التراب الوطني‮. ‬ولعل أبرز عنصر‮ ‬تواجهه النخب‬،‮ ‬دولةً ومجتمعاً، هو العزوف الكبير عن ممارسة هذا الحقّ السياسي‮ ‬المتوافق عليه دولياً‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ما سبق ذكره،‮ ‬وإن كان محدوداً‮ ‬يعيد طرح تفسير الدور المركزي‮ ‬للانتخابات في‮ ‬الحياة السياسية، ‬وفي‮ ‬التعبير عن السيادة الوطنية‮ (‬وليس الشعبية فقط‮). ‬كما أنه‮ ‬يسلّط الضوء على أن أزمة النظام الحزبي ‬مرتبطة باختلالات التمثيل الانتخابي،‮ ‬وهو‮ ‬يعاني‮ ‬كثيراً، حتى أن الأحزاب نفسها صارت تطالب‮ بـ”كاستينغ” ‬لائق ومقنع، ونخبة في‮ ‬المستوى. ‬ولعلّ‮ ‬النفور الشبابي‮ ‬بالخصوص‮ ‬صار‮ ‬يتهدد اللعبة برمتها‮، ‬بديمقراطية من دون مستقبل ديموغرافي‮ ‬مضمون. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وإذا سلّمنا بأن التمثيلية الديمقراطية‮، ‬والحرص على جودتها،‮ ‬يفرض على السلطة ‬أن‮ “‬تفكّر نفسها”، ‬فقد صار من الملحّ أن تدفع باتجاه منظومة انتخابية نهائية وقارّة،‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن تتغيّر مع كل موعد انتخابي، ‬فلن‮ تُوفّر شروط النضج الديموقراطي‮ ‬من دون قواعد لعب قارّة،‮ ‬والمغرب قد قضي‮ 60 عاماً من الانتخابات، وفي‮ ‬كل انتخاب‮ٍ ‬يغيّر قواعد اللعب والتنافس الانتخابي‮، ‬على عكس ما‮ ‬يتم في‮ ‬كل الديمقراطيات المتعارف عليها‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ولعلّ أحد رهانات النقاش السياسي‮ ‬اليوم هو بالفعل إعطاء الانطلاقة لدورة سياسية جديدة،‮ ‬تستطيع مجاراة الأفق المغربي‮ ‬للسنوات الست المقبلة ‬برهاناتها‮: ‬خمسون سنة من النزاع حول الصحراء والمونديال‮ ‬2030‮ ‬وتقييم حصيلة النموذج التنموي‮ ‬الجديد بأفقه المتزامن مع تاريخ المونديال، من دون الحديث عن طموحات المغرب في‮ ‬التموقعات الخارجية التي‮ ‬لها ارتباطٌ جدليٌّ‮ ‬قويٌّ‮ ‬بالأوضاع الداخلية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى