رأي

الدور العربي على المسرح الإمبريالي

كتب أحمد الشيخ في صحيفة الجزيرة:

يبدو أن أرباب وسادة المشروع الكولونيالي الغربي المتربّص بالبلدان التي رزحت تحت الاحتلال الإمبريالي، ومنها بلدان عربية، قرروا أن ينتقلوا إلى مرحلة جديدة، في آفاق ما يرسمونه من أدوار “أداتيّة” للأنظمة التي نَصَّبوها للسيطرة على الشعوب، وفق ما يضمن استمرار سيطرتهم على تلك البلدان واستغلال مقدراتها، في زمن ما يُعرَف بالكولونياليّة الجديدة لدى طائفة واسعة من المفكّرين والباحثين.

وما تفيض به وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من تصريحات ومواقف وإجراءات عملية، لا يدع مجالًا للشك في أن الغرب الكولونيالي يريد اليوم أن يصبح الانصياع التام لإسرائيل جهارًا نهارًا، هو المقياس لمشروعية أي نظام والضامن لاستمراره في مواجهة الشعوب بقوَّة الحديد والنار، وسطوة الجلّاد في غياهب السجون. فإسرائيل هي مشروعه الكولونيالي الأهمّ عبر تاريخه الصدامي الطويل مع الشرق العربي والإسلامي.

علاقة مستترة

فلقد مضى على حرب الغرب على فلسطين، تمهيدًا لقيام الحَلْقة الأهمّ في مشروعه الإمبريالي ما يقارب أحد عشر عقدًا من السنين (107 أعوام). ومنذ البداية استعان الغرب بالبعض سرًا في التمهيد لقيام إسرائيل، مقابل وعود بكيانات ودول تقوم بعد أن تخمد نيران الحروب، وتنتهي الدولة العثمانية، وهو ما تم كما نراه اليوم.

ظلت علاقة النظام العربي، الذي أفرزته ما تسمى بمرحلة استقلال الدول المستعمَرة، مع الكيان الكولونيالي الإحلالي مستترة تحت طبول تحرير فارغة تصم الآذان، وتعمي العيون وتطمس على القلوب، بينما يقوم زاعمو الاستقلال، وأدعياء النضال ومناهضة الإمبريالية وراء الكواليس بتهيئة الجماهير، لقبول احتلال جزء جديد من فلسطين وجوارها، وهي تقول لهم “أخي جاوز الظالمون المدى” من دون أن تجاوز أفعالهم أثير إذاعاتهم المتغنية بفلسطين من النهر إلى البحر، وكان هذا هو أول شعارات خداع الشعوب الرسمية رغم صدقه الجغرافي والتاريخي.

ولعلني أقول، انطلاقًا من الاعتراف الأخلاقي، إننا كنا ننخدع بتلك الشعارات ونتساوق معها، بل ويصل الجدال بيننا ونحن طلبة إلى حد السباب والشتيمة والاتهام. فأصحاب المشروع الكولونيالي دهاة ومتمرسون في غسل العقول واستنباتها بما يخدم مخططاتهم مرحلة تلو الأخرى، ونحن غافلون جاهلون، وما زلنا في أحيان كثيرة حتى اليوم.

فصل توسعي جديد

كان كل شيء يحاك ويطبخ على نار هادئة بانتظار بدء مرحلة التوسع الجديدة للكيان، في لحظة مناسبة يبدو للعالم فيها أن إسرائيل تدافع عن نفسها أمام من يريدون إلقاءها في البحر، كما حدث فجر الخامس من يونيو/ حزيران 1967، فاحتلت فلسطين كلها ومعها سيناء والجولان ومناطق من لبنان. بعد ذلك أصبح الحديث عن “الأرض مقابل السلام”، وَفق القرار الأممي 242، الذي صاغه واحد من دهاقنة الكولونيالية البريطانية، وقَبِلَه العرب المهزومون.

ولأن المهزوم تُنْتَزع منه حميته النفسية مع هزيمته الميدانية، فإنه يصبح فريسة يتلاعب بها المنتصر، تمامًا كما تفعل لبؤة حين تريد أن تدرب أشبالها على الصيد، فلا تقتل الغزال الصغير أحيانًا، بل تبقيه حيًا تتلاعب به الأشبال، قبل أن تجهز الأم عليه ويُزْدَرَد.

وهكذا ظل العرب بأنظمتهم ألعوبة في يد المشروع الكولونيالي، يقول لهم قريبًا ستعود الأرض مقابل السلام، فيُلْهِيهِم سرابُ الأمل، بينما تتدرب الأشبال الصغيرة، وتُهَيَّأُ خشبةُ المسرح، فترفع الستارة ويبدأ فصل توسعي جديد بطله الأكبر إسرائيل، وأبطاله الصغار بعض عرب يستترون وراء الشعارات. أما المخرج المبدع فهو الغرب الكولونيالي صاحب المشروع وصانعه وحاميه.

وفي لحظة مناسبة، يقرر ذلك المخرج المبدع أن الوقت قد حان كي يُعْطى بعضُ المستترين أدوارًا علنية، يصرخون فيها مثل الأبطال الشجعان، وهم يردون العدوان ويستعيدون الأرض، وتهتف لهم الجماهير حتى وإن استعادوا أرضًا انْتُزِعت منها هي الأخرى شوكتها، كما انْتُزِعت الحمية من نفوس هؤلاء “الأبطال” وهم يُصْنَعون رويدًا رويدًا وراء الستارة ليظهروا على المسرح عند بدء الفصل الجديد.

انسلاخ من الثوابت

البطل المنتصر صاحب الدور الجديد لا يخاف من أحد في شوارع البلاد التي جعلها المخرج مسرحًا له! يصرخ ويعربد ويهدد ويفرم، ويعلن للعالم أنه صانع السلام جهارًا؛ لأنه الكبير، إلى أن تأتي لحظة إسدال الستارة، ثم ترفع عن “أبطال” جدد آن الأوان ألا يظلوا هم أيضًا مستترين في الفصل الجديد.

الآن أصبح “السلام مقابل السلام”، في قناعة النظام العربي الرسمي وربما لدى بعض قطاعات الشعوب. ولا تسألوا عن معنى السلام وجوهره، فلهذا فصل آخر على خشبة المسرح الكولونيالي لم يحن وقته بعد. هناك بطل طامح يرفض أن يدخل حظيرة المشروع، ولا بد من اقتياده إليها بسلاسة، فهو صاحب الأرض مدار الصراع، وتطويعه هو الأجدى والأهم الآن.

يعلن البطل الطامح استقلالَ وطنه ودولته في المنافي، يسير على السجاد الأحمر، أوَ لم يصبح رئيسًا؟! تُعزف له الأبواق، يخاطب العالم كله ويدخل الحظيرة أخيرًا. يبدأ البطل التدريب على المسرح وراء الستارة قبل أن يحين موعد ظهوره أمام الناس. ينتبذ من دون شعبه مكانًا قصيًا في بلاد الجليد والضباب والأساطير، ثم يعلن للدنيا اتفاق الخطوة خطوة. جزء يسير من الأرض مقابل السلام.

يصافح عدوّه برعاية صاحب المشروع الأصلي ويصفق الغرب، ليس إعجابًا وتقديرًا لأداء البطل الجديد على الخشبة وشجاعته، بل للمخرج المبدع الصبور صاحب المشروع وحاميه. إنه الفصل الأهم في المسرحية، فلا بد من تطويع صاحب الأرض، طوعًا أو كرهًا، حتى يدخل الحظيرة، ثم يتهافت بقية الأبطال الطامحين ما دام صاحب الأرض قد قَبِلَ السلام مقابل وعد ببعض الأرض، فأهل مكة، كما قالت العرب أدرى بشعابها.

يتدافع الأبطال الطامحون إلى خشبة المسرح، بعضهم ذو خبرة تمتد عقودًا في اللعب من خلف الستارة، ويتوقون للوقوف على الخشبة أمام الجمهور، مثل الشجعان الذين سبقوهم، وقد مَلَّوا الكواليس وظلامها.

وبعضهم مستجد تدفعه حماسة الشباب وأوهام الشجاعة بعيدًا، فأصبح مستعدًا للانسلاخ من كل الثوابت والعقائد مقابل “سلام بسلام” ووعد أو مال ورضا من المخرج الكولونيالي المبدع الذي يحرك الجميع. إنه “السلام مقابل السلام” في هذه المرحلة، حتى يقرر المخرج فصلًا توسعيًا جديدًا.

أما البطل الأول والحقيقي على الخشبة ربيب الكولونيالية، فقد شبّ عن الطوق، وأخذ يعصي في كثير من الأحيان أوامر المخرج؛ لأنه يريد منه أن يستعجل في الإخراج، قبل أن يصحو بعض الجمهور، ويكتشف اللعبة واللاعبين، كما تنبئ بذلك إرهاصات غزة المقاومة المجاهدة، وترفع الستارة لبدء فصل جديد لا يصلح فيه شعار “السلام مقابل السلام”، بل هو “السلام مقابل الاستسلام” هذه المرة.

البطل الربيب يعلم أحيانًا من الخفايا ما لا يعرفه المخرج، فالأبطال الثانويون يتقربون إليه زلفى، ولا يرفضون له طلبًا، لعله يتوسط لهم عند السيد الكبير.

ومنهم من يهبّ لنجدته وغوثه إن ضاقت عليه بعض السبل أو ادلهمّت عليه الخطوب، فهذا إذن هو فصل “السلام مقابل الاستسلام” ولا بد من التعجيل بإسدال ستارته، ليبدأ فصل “أرض إسرائيل الكبرى” خارج حدود الاحتلال حاليًا في كل فلسطين وفي الجولان وبعض لبنان.

أبطال مزيفون

ألم يقف بنيامين نتنياهو أمام العالم كله ليرفع خارطة إسرائيل الكبرى التي وعدها الرب لشعبه المختار، لتقوم بعد أن يقضي على العماليق أو يهجرهم ويستعبد من يستبقيهم منهم ومن جيرانهم على قيد الحياة؟

ألم يقل بملء فِيهِ إن إسرائيل الكبرى في الأصل تشمل فلسطين ولبنان والأردن وأجزاء من سوريا وبلادٍ عربية أخرى، لكن إسرائيل، كرمًا منها، تقبل بكل فلسطين والجولان وبعض لبنان وطنًا خالصًا لليهود وحدهم، لا يشاركهم فيه أحد؟

أهذا مستبعد؟ لماذا؟

شاهدت على شاشة الجزيرة، وأنا أكتب هذا المقال صور يوم الحشر في شمال غزة، وعشرات الألوف، بل مئات الألوف من الجوعى، أطفالًا ونساء وشيوخًا، يمضون مثل سيل عرم نحو بضع شاحنات إغاثة سمح لها النظام العربي بعد تقاضي الإتاوات بالدخول من معبر رفح.

هذا الموت والدم والجوع والعري والمرض تحت سمع العرب وبصرهم منذ أكثر من خمسة شهور، وما “اسْطاعوا” أن يدخلوا لغزة إلا الأكفانَ، وشيئًا من أُكُلٍ خَمْطٍ وطعام يسير، وهي أيضًا تدخل مقابل إتاوات تذهب لجيوب أصحاب النياشين. لا أريد أن أقول أكثر من هذا لأني أخشى أن أفحش في القول، وهو ما لا يليق بالقلم ولا بصاحبه، حسبنا الله وكفى.

ليس مستبعدًا إذن، أن يرفع المخرج في مسرح الكولونيالية الجديدة ستارة الفصل الأخير من مسرحية العبث هذه، كي يقف جميع الأبطال المزيفين خُشَّعا أبصارُهم ترهقهم ذلّة، وهم يتلوَّوْن ألمًا من سياط البطل الربيب تُقَرِّحُ أجسادهم المُنَعَّمَة، بعد أن أصبح السلام استسلامًا، وتحول الاستسلام إلى استعباد لمن هانت عليهم نفوسهم وكراماتهم. هذه هي سُنة الله في التاريخ، وإنَّ غدًا لناظره قريب، فلا يلتفت أحد منكم، يا أهل غزة وفلسطين، وراءه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى